المنامة عاصمة الثقافة العربية

TT

تقليد جميل أن تنتقل عاصمة الثقافة العربية بين العواصم العربية المختلفة كل عام. العام الماضي كانت الدوحة هي عاصمة الثقافة العربية وهذا العام جاء الدور على المنامة عاصمة البحرين لتكون عاصمة الثقافة العربية.

وقد تكرمت وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة الدكتورة مي آل خليفة بدعوة الأستاذ الدكتور صلاح فضل والسيدة حرمه - وهي أيضا أستاذة جامعية قديرة - ودعتني معهما لحضور افتتاح السنة الثقافية وبعض فعالياتها الأخرى خلال العام وقد رحبنا جميعا بقبول الدعوة وقضينا في المنامة بضعة أيام كانت من أمتع الأيام وأخصبها.

و«الثقافة» هي أقدر العناصر على جمع شمل العرب حتى وإن اختلفوا في كل شيء آخر. أذكر أنني في أوائل السبعينيات من القرن الماضي عينت مستشارا ثقافيا في السفارة المصرية بباريس. ومن أوائل الزيارات التي قمت بها زيارة لكل المستشارين الثقافيين العرب الذين كانوا في باريس آنذاك. وكان الجو السياسي ملغما وملبدا.

كانت مرارة هزيمة 1967 لم تزل غصتها في النفوس. وكان جمال عبد الناصر قد لقي ربه متأثرا بالهزيمة المرة وتولى الرئيس السادات مسؤولية الحكم في مصر. وجرت أحاديث كثيرة عن ضرورة الحرب وعن عام الضباب وعام الغمام. وكان كثيرون لا يصدقون أن مصر ستحارب وأدى ذلك إلى شروخ كثيرة بين أبناء وأقطار هذه الأمة.

وفي ذلك الجو الملبد بالغيوم ذهبت إلى باريس وقمت بتلك الزيارة لزملائي في السفارات العربية وأذكر أنني قلت لهم وقتها: ليختلف الحكام العرب في السياسة ما شاء لهم الاختلاف ولكن تعالوا نحن والذين يفترض فينا جميعا أننا نخدم الثقافة العربية، تعالوا نحاول أن نختلف. نحن نخدم هدفا واحدا لا خلاف عليه وهو الثقافة العربية. فيما يحتمل الخلاف بيننا ونحن نخدم قيمة واحدة وأمرا واحدا هو الثقافة العربية بكل عناصرها ومقوماتها. وكان ردهم جميعا هذا كلام سليم تماما وليس هناك ما يبرر أي اختلاف. بل إن هذا المنطق يقضي أن نوحد جهودنا جميعا في خدمة الغرض الواحد الذي جئنا جميعا من أجله إلى هذا البلد: باريس عاصمة الدنيا وعاصمة النور كما أطلق عليها المرحوم الأستاذ الشيخ الدكتور مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر، أحد الذين درسوا في السوربون وحصلوا على الدكتوراه في الفلسفة من هناك.

ومع ذلك كله فقد لعبت السياسة ألاعيبها التي تفسد كل شيء ولم يجتمع منا - ونحن المستشارون الثقافيون في فرنسا - إلا عدد قليل وحّدنا جهودنا بالفعل في خدمة الثقافة العربية. وكان من آثار ذلك نشاط كبير في النادي المصري في الحي اللاتيني وإعطاء دروس اللغة العربية للفرنسيين وتنظيم ندوات ومحاضرات ودعوة شخصيات ثقافية فرنسية كبيرة لزيارة بعض العواصم العربية وإنشاء مدرسة عربية لخدمة أولاد الجالية العربية وهي جالية كبيرة جدا. بل إن معهد العالم العربي الذي أنشئ عقب ذلك كان ثمرة من ثمرات هذه الجهود.

وما زلت أقول إن الثقافة العربية هي أول ما يستطيع أن يجمعنا نحن العرب. وفي احتفالات المنامة كان هناك وفود من أغلب أقطار الوطن العربي كلها شاركت فيما أقيم من ندوات سواء في مركز الشيخ إبراهيم أو في متحف البحرين. وكلها كانت مشاركات ممتعة ومفيدة ومع ذلك فإني أريد أن أشير إلى لقاءات ثلاثة علقت في ذهني أكثر من غيرها.

الأول الذي غنت فيه مطربة تونسية بعض أغانٍ لسيدة الغناء العربي أم كلثوم والتي لا أحب أن أسمع أحدا يقلدها وأقول دائما إن الذين يقلدون أم كلثوم يسيئون إلى أنفسهم وإلى سيدة الغناء العربي ولكن هذه الفنانة التونسية استطاعت بقوة صوتها واتساع طبقات هذا الصوت أن تقترب - ولو بعض الشيء - من معجزة الغناء العربي: أم كلثوم. وغنت فنانات أخريات أطربننا وأشعرننا بوحدة الفن العربي الأصيل وأنه هو اللغة المشتركة بين العرب أجمعين.

وكان اللقاء الثقافي الثاني الذي أقامه السفير الفلسطيني في البحرين برعاية الشيخة مي آل خليفة وحضره البعض وحرصت على الحضور لعلاقاتي القديمة والحديثة بالثورة الفلسطينية منذ أيام الراحل أبو عمار رحمه الله وإلى الآن. وكان الحفل مخصصا لتكريم بعض من أطلق سراحهم من الأسرى الفلسطينيين أخيرا من سجون البغي والعدوان الصهيوني ومنهم من قضى في تلك السجون 28 عاما ومنهم من قضى دون ذلك بقليل أو كثير. وكلهم من غير شك يستحق التقدير والتكريم. وكم كنت سعيدا حين كان بعضهم يخبرني أنه يعرف علاقتي القديمة بالثورة الفلسطينية ودعواتي الأخيرة المتكررة بضرورة توحد الفصائل الفلسطينية.

أما اللقاء الثالث والأخير فقد كان ندوة أقيمت في مبنى المتحف الوطني البحريني وأدارها الصديق المجمعي الكبير الأستاذ الدكتور صلاح فضل وكنت أحد المتحدثين فيها. وكانت الندوة ستدور في الأصل حول الثقافة العربية بعامة وكيف استحقت المنامة أن تكون عاصمة الثقافة العربية هذا العام.

وقد شارك المتحدثون جميعا - وأنا واحد منهم - في ذلك ولكن الجميع وبصدق شديد وحرارة واضحة كان حديثهم عن هذه الهدية التي أهدتها الأقدار لمملكة البحرين والتي تتمثل في مي آل خليفة التي وهبت حياتها وجهدها وفكرها وروحها لكي تقيم مشروعا ثقافيا ندر أن يستطيع القيام به فرد واحد أو حتى عدد من ذوي الكفاءات المتميزة المتفانية.

هذه السيدة الدكتورة مي آل خليفة وزيرة الثقافة في مملكة البحرين ظاهرة متفردة في الوطن العربي كله في إيمانها بأهمية الثقافة وأهمية الاستثمار في الثقافة وأنها أبقى استثمار والأعمق تأثيرا في حياة الشعوب.

رعى الله البحرين ورعى الله لها هذه السيدة الملهِمة والملهَمة مي آل خليفة وبارك في شعبها السمح الودود. وجنبها الفرقة والفتنة والتعصب المقيت. إنه سميع مجيب الدعاء.