منظومة الحريات العامة

TT

يستحق الأزهر الشريف، من عموم المثقفين في الوطن العربي على اختلاف مشاربهم وتباين نحلهم وليس من مثقفي أرض الكنانة فحسب، تحية إجلال وإكبار يستحقهما اليوم لسببين اثنين على الأقل: أولهما وعي المؤسسة العتيدة بمسؤولياتها الدينية في الاتصال بالحياة العامة للأمة وفي عدم التهيب ولا الإحجام من القول في قضية خطيرة في تلك الحياة العامة، بل الخطيرة فيها على وجه الإطلاق وهي قضية نمط الدولة الأكثر مناسبة للوجود السياسي الاجتماعي الحالي مع الالتزام بالدين الإسلامي مرجعية عليا منها يكون الاستمداد. وثانيهما الوعي بأهمية الحوار وإدارة الاختلاف في القضايا المصيرية العظمى. لنقل، في عبارة أخرى، القدرة على التمييز بين الخلاف وبين الاختلاف. فأما الأول فهو قطعي نهائي في القضية الواحدة موضوع النظر. وأما الثاني، أي الاختلاف، فهو التعبير عن التعدد في الرأي، مع الحفاظ على مرجعية واحدة يكون الالتقاء عندها وجوبا وهذا هو السبب الثاني الذي نرى أنه يستوجب منا، جميعنا، الإجلال والإكبار للأزهر ولمشيخته.

ليس أدل على الأمر الأخير من هذا الجمع، في صعيد واحد، بين شيوخ الأزهر وبين مثقفين وعلماء لا يمثلون بالضرورة رأيا واحدا بل ومن المتعذر أن نقول إنهم يصدرون عن نظر واحد منسجم إلا أن يكون الناظم بينهم هو حب الوطن والتوق إلى إسعاد أبنائه وأمن ترابه وحدوده. كذلك كان الشأن في الاجتماع الذي ضم حساسيات فكرية ومذهبية مختلفة وكان عن ذلك الاجتماع إصدار الوثيقة الأولى. وكما صدرنا قولنا في تلك الوثيقة التاريخية بجملة احتياطات بينا فيها أن الشأن المصري ليس له أن يكون موضع قول فيه ممن كان غير منتسب إلى هبة النيل، وقلنا إنه ليس له أن يخوض في ذلك الشأن إلا أن يكون الأمر حبا لمصر من جهة أولى واعتبارا أن ما يحدث فيها يعني، من حيث دلالته البعيدة، العالم العربي بأكمله - كما فعلنا ذلك حين حديثنا، من هذا المنبر، عن الوثيقة الأزهرية التاريخية فنحن اليوم نجدد القول ذاته قبل الإقبال على قراءة «بيان الأزهر والمثقفين عن منظومة الحريات الأساسية».

أول ما يستوجب منا القول، قبل النظر في مضامين الوثيقة التي صدرت عن الأزهر الشريف قبيل عشرة أيام، هو التنبيه على أن حديث الحريات الأساسية هو الترجمة، في مستوى التشريع السامي، عن ما نعته الدكتور أحمد الطيب في تصديره للوثيقة الأولى بالدولة «الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة» أو ما نرى نحن أنه «الدولة الحديثة» في نعت أو «دولة القانون» في نعت ثان أو «الدولة المدنية» في وصف شامل يفي بالقصد. الحرية، إجمالا، والحريات الأساسية تخصيصا هي عنوان الدولة المدنية أو دولة القانون على الحقيقة وبالقدر الذي تحرص فيه الدساتير التي تتوخى التشريع لها هذه الدولة الأخيرة على مراعاة الحريات الأساسية وعلى اعتبارها حرمات يجب عدم انتهاكها أيا كانت المبررات بالقدر الذي تتحقق فيه دولة القانون في أرض الواقع. وعلى العكس من ذلك تماما فإن الدولة المدنية (على الحقيقة) تزول وتختفي لصالح دولة الظلم أو دولة الحق المقدس للملوك (= الحق الإلهي) وهي الدولة التي ليس لها في الإسلام مكان، بل إن الإسلام ينفيها من حيث هو عقيدة وشريعة معا. وإذن فإن بيان منظومة الحريات الأساسية تجلية وتوضيح لمعنى الدولة التي أتت وثيقة الأزهر بالتشريع لكلياتها السامية.

وثاني شيء نرى وجوب التصريح به والتأكيد عليه هو أن الإسلام بالقدر الذي لا يتعارض فيه مع المرامي البعيدة للدولة المدنية على الحقيقة نجد فيه ضنا بالحرية من الضياع والتفريط وحرصا عليها أشد ما يكون الحرص وآي القرءان الكريم وأحاديث النبي الكريم في هذا الصدد معلومة مشهورة وفي وثيقة الأزهر موضوع حديثنا اليوم ذكر صريح أو تلميح إلى البعض منها. غير أني أريد التنبيه إلى أن الفقه الإسلامي يربط بين التكليف الشرعي وبين الحرية في موطن كثيرة، ففي تولي وظائف عديدة نجد اقترانا ضروريا بين التكليف وبين الحرية وانعدام الحرية يسقط التكليف مثلما يسقطها انتفاء العقل سواء بسواء. ودون حاجة إلى الخوض في قضايا كلامية نقول إن الحرية، في تجلياتها العديدة تحضر في الكتاب العزيز وفي الخطاب النبوي الكريم في مواطن كثيرة. الحرية، إجمالا، والحريات الأساسية التي جاءت منظومات حقوق الإنسان بتجليتها وبالدفاع عنها تجد من الشريعة الإسلامية، متى تم إدراكها في مقاصدها البعيدة، موافقة وتأييدا.

الحريات الأساسية التي يقصدها بيان الأزهر أربعة: حرية العقيدة، حرية الرأي والتعبير، حرية البحث العلمي، حرية الإبداع الأدبي والفني.

تربط الوثيقة بين حرية العقيدة وبين «حق المواطنة الكاملة للجميع (...) حجر الزاوية في البناء المجتمعي الحديث» وهذا من جهة أولى، وبين النصوص الدينية القطعية وهذا من جهة ثانية. ولا شك أن في التذكير بالكيفية التي ترتبط بها الأمور المذكورة ببعضها البعض تنبها إلى الخطأ الشنيع الذي تسعى جهة أو جهات إلى إيقاع المواطنين من أبناء الوطن الواحد في جحيم الدين منه براء. يصح القول أيضا إن نعم الرأي يتعين الأخذ به حين الإقبال على تحير بنود الدستور المصري المرتقب، فكم من الآلام والآثام سيكون تفاديه وكم من الجدل العقيم سيكون تجنبه حين استحضار هذه الحقائق الأولية.

وتنعت الوثيقة حرية الرأي والتعبير، وقد كان فهمها على جهة الاستغراق التي تفيد أشكال التعبير جميعها، بـ«أم الحريات كلها» وهي في هذا النعت لا تجانب الصواب ولا تجنح صوب المبالغة والتهويل. نحن لو تركنا حرص الفقه الدستوري المعاصر على مراعاة حرية التعبير وإبداء الرأي، فذلك من بديهيات الفكر السياسي الحديث إجمالا، ويممنا النظر صوب تاريخ الفكر العربي الإسلامي لتبين لنا في سهولة ويسر كيف أن السمة الأولى التي ميزت ذلك الفكر دوما في كل مراحل القوة والازدهار هي سمة قبول الاختلاف والتسليم بالتعدد في الرأي والقول بالدفاع عن حق الخصم، قبل الصديق، في إبداء رأيه صحيحا غير محرف قبل محاكمته. ربما صدق القول إن الثقافة العربية الإسلامية في عصورها الذهبية كانت ثقافة الاختلاف والتسامح أو إن ذلك ما نفيده من قراءة نصوص كثيرة لا شك أن نصوص علم الكلام أو أصول الدين، تندرج فيها. وإذن فالوثيقة لا تعدو، من جهة أولى، عمل التذكير بما ليس متعارضا مع دين الإسلام في حقيقته وهي، من جهة ثانية تفتح أمام التشريع الذي يجدر بمصر اليوم الأخذ به في التشريع السامي لحياتها السياسية والاجتماعية في توافق تام مع الشرع الإسلامي ومقتضياته.

وأما قول الوثيقة في حرية البحث العلمي فهو إحقاق للحق ودفع شبهات عن الإسلام ربما كانت جهة ما أو جهات تسعى إلى التشكيك فيه انطلاقا من نظر حسير أو من قصور في الإدراك، وربما منهما معا. والوثيقة، إذ تصدر عن الأزهر الشريف، فهي تضع حدا لمهاترات شتى، وهذا من جهة أولى وهي، إذ تكون تعبيرا عما تستشعره كوكبة من العلماء في الدين وفي شؤون الدنيا وطائفة من المبدعين، تحمل على الجرأة في اقتحام عالم المعرفة وتبوؤ مكان فيه يمكن من الانتساب إلى العصر حقيقة «وقد آن الأوان ليدخل المصريون والعرب والمسلمون ساحة المنافسة العلمية والحضارية» - كما تقول الوثيقة.

وأما اعتبار حرية الإبداع الأدبي والفني جزءا من الحريات الأساسية التي يجب الوقوف عندها والتنبيه إلى أهميتها، مع التذكير حيث يلزم التذكير بالمجال الفسيح لتلك الحرية ما دامت قابلية المجتمع لتقبل الإبداع الحر موجودة، وكانت تلك الحرية لا «تمس المشاعر الدينية أو القيم الأخلاقية المستقرة». مراعاة حرية الإبداع وقد كانت على نحو ما يذكر البيان ضمانا للحرية في معناه الشامل الذي تكون الديانات السماوية والقيم الإنسانية العليا، من أي جهة صدرت، دفاعا عنها وتشريعا لإمكانها ودوامها.

أوليات يحسن التذكير بها وخارطة طريق واضحة يجمل بالمجتمعين، استقبالا، لكتابة الدستور المصري استحضارها فرب نهضة فعلية تكون تنبيها إلى حقائق أولية.