سوريا: هيك بدو المعلم!

TT

المهمة الأصعب في سوريا اليوم لا تخص المسؤول عن إدارة الجيش المنتشر في كل أنحاء البلاد منهكا وهو يحاول إخماد الثورة السورية المنتشرة في كل أرجائها، ولا المسؤول عن الاقتصاد هناك وهو يرى مؤشراته تنهار وعملتها تتدهور واستثماراتها تتبخر بسرعة الضوء، ولا المسؤول عن أجهزة الاستخبارات التي لم تتمكن من «تأكيد» أي تهمة من اتهامات النظام للثوار، سواء أكان ذلك باتهامهم بأنهم مجموعات سلفية ومتطرفة وإرهابية تدعمهم حكومات «غريبة» ولها أجندات مريبة وأن الإعلام العالمي يتآمر معها، ولكن على ما أعتقد أن المهمة الأصعب في سوريا اليوم هي أن تكون مسؤولا عن إدارة حملة العلاقات العامة للنظام السوري وأن تحاول تحسين صورته أمام العالم.

هذا النوع من المهام هو ما يسمى بالمهام المستحيلة التي لا يمكن تحقيقها ولا إنجازها بأي حال من الأحوال. ومن تابع خطاب الأسد الرابع الأخير يدرك أنه كان أشبه بمحاضرة أكاديمية في جامعة كوريا الشمالية للطلبة، أو خطاب لرئيس فرع حزب البعث في محافظة نائية، وليس بخطاب مصيري لنظام يواجه ثورة عارمة وتؤيدها دول العالم بعد سنوات من القمع والقهر والذل والمهانة والاستبداد. كان الخطاب حالة من الإنكار وتوجيه اللوم إلى «الآخرين» وبأسباب هشة وساذجة لا تقبل من أحد لديه ضمير أو عقل أو إنصاف أبدا، وبعد هذا الخطاب الأطول عربيا خرج بعدها بيوم الرئيس بشار الأسد في مظاهرة مسرحية أعدت بعناية شديدة جدا ليظهر أنه بحرية وأمان وسط أعداد كبيرة من مؤيديه، ولكنها لم تعد سرا ولا هي غامضة مجهولة الكيفية التي يتم بها تجميع أرتال من البشر من مدارسهم ووظائفهم بالإكراه والجبر ليكونوا في ميادين وساحات التأييد «العفوية»، ولكن كل ذلك في واد وما يحصل على الأرض السورية في واد آخر.

هناك مدن باتت خارج سيطرة النظام كما هو واضح، مدن مثل درعا وحمص وإدلب والزبداني وغيرها في الطريق، واضح أن هناك تغييرا صريحا على الأرض، وأن حجم الانشقاقات المهولة لم يعد الجيش النظامي السوري قادرا على إخمادها وسط الجرائم المذهلة التي يرتكبها النظام السوري بأجهزة أمنه و«شبيحته»، لم يعد مؤيدو النظام والرئيس قادرين على تبييض صورة النظام ولا تحسينها، فأرقام القتلى والجرحى والذعر الذي أصاب الشعب السوري بات لا يمكن تسويته إلا برحيل بشار الأسد شخصيا ونظامه اللذين باتا مرتبطين بالذل والقتل والإنكار في حق الشعب السوري بشكل مذهل. ويضاف لذلك كله الإخفاق الكبير لمهمة مراقبي جامعة الدول العربية وتضارب الأقوال الواضح بين أعضاء منهم نطقوا صادقين بما شاهدوه، وبين رئيس البعثة صاحب الخلفية العسكرية الجنائية وهو يبرر ويوضح ويدافع عما رآه، دون أي إشارة لوجود حالات قمع وعنف واغتيال ودموية من النظام بحق شعبه.

الثورة تجتهد للحفاظ على سلميتها وسط مشروع إبادة إجرامي من النظام بحقها وحق المشاركين فيها، وكذلك محاولة الثورة الإبقاء على الخط اللاطائفي وسط تصعيد طائفي فظ ومذهل من قبل النظام بشتى الأشكال. والنظام السوري البعثي الأسدي انتهى وهو يدرك ذلك تماما، وأنه يعيش في منطقة اللاعودة السياسية، حتى أعتى مؤيديه يدركون أن المارد الشعبي السوري خرج من القمقم وأن المارد لا يعود متى خرج دون تحقيق مطلبه الأكبر.

إسرائيل تبذل جهودا مضنية لإيقاف أي تدخل في سوريا بشكل عسكري، لأنها تخشى من الأسلمة السياسية لكل حدودها كما يبدو من أثر التطورات السياسية الأخيرة نتاج الربيع العربي وتطوراته، ولكن حتى الضغوط الإسرائيلية على فرنسا وأميركا تبقى تمنيات وسط ازدياد رقعة الحراك الشعبي السوري المطالب بالحرية والكرامة، لأن إسرائيل نفسها بدأت تجهز مرتفعات الجولان لنزوح محتمل من الجالية العلوية، بحسب ما صرح به مسؤول تنفيذي عسكري كبير بالجيش الإسرائيلي.

المشهد السوري قاتم في لحظاته الحالية وشديد الدموية، ولكن نهاية النفق بدأت تتضح ملامحها، نهاية حقبة الأسد والبعث وبداية سوريا الحرية.

خطاب بشار الأسد الأخير بقدر ما كان عقوبة لمن استمع إليه تعادل عقوبة غوانتانامو، كان مؤشرا حقيقيا لنهاية النظام نظريا وعمليا.

[email protected]