أي نظام إسلامي؟

TT

في تسعينات القرن الماضي بدا، للوهلة الأولى، أن أوروبا حسمت شكل النظام السياسي الأنسب – وليس بالضرورة الأفضل – لمزاج شعوب القرن الحادي والعشرين، بمجرد أن أكد انهيار المنظومة السوفياتية على رؤوس الماركسيين أن ضمان حريات الشعوب بات بأهمية ضمان لقمة عيشها... إن لم يكن أهم.

عواصم الغرب اعتبرت هذا الحدث انتصارا طال استحقاقه لمفاهيم النظام الديمقراطي. ومع التسليم بأن انفراط عقد الماركسية الأوروبية عزز موقع الحريات الفردية في أولويات شعوب القرن الحادي والعشرين، فهو لم يضع حدا لتطلع هذه الشعوب إلى الدولة العادلة، ما يوحي بأن مجمل أنظمة الحكم الممارسة حتى الآن تعاني من أزمة مصداقية مع شعوبها - وإن بنسب متفاوتة:

* الأنظمة الديكتاتورية، والأصح فلولها، في أزمة خانقة. حتى «الملعب الخلفي» لأسوأ ديكتاتوريات العالم، أي بورما (ميانمار)، بدأ يتحسب لرياح الحريات ويحاول، عبر إفراجه عن معتقلين سياسيين بارزين، الحؤول دون تحولها إلى عواصف عاتية تطيح به.

* وفي العالم العربي، لم تعد تبعات «الربيع العربي» توحي بأنه أكثر من فترة التقاط أنفاس مؤقتة للشعوب قد تنحصر جدواها العملية في توفيرها لإطار دستوري للتحولات السياسية المقبلة في مسيرة البحث عن الدولة العادلة.

* النظام الرأسمالي نفسه، الذي منحه انهيار المنظومة السوفياتية هامش تفوق تقني على الاقتصاد الموجه، يواجه هو أيضا أزمة مصداقية في أعقاب «أزمة اليورو» التي تهدد بإطاحة الاتحاد الأوروبي من الوجود، خصوصا أنها أتت بعد فترة وجيزة من إفلات الدولة الأميركية من «الإفلاس» بفضل مسارعة الكونغرس إلى رفع سقف مديونيتها... فلا غرابة في توقع تطور أزمة مصداقية اقتصاد النظام الرأسمالي إلى أزمة جدوى سياسية أيضا لاحت تباشيرها الأولية في المظاهرات الصاخبة المنددة بـ«وول ستريت» في معقلين متقدمين من معاقل الرأسمالية العالمية: لندن ونيويورك.

انطلاقا من هذه الخلفية، هل يصح وضع توجه الأكثريات الناخبة في بلدان «الربيع العربي» نحو الآيديولوجيات الدينية الجذور – كما ظهر من انتخابات تونس ومصر وحتى المغرب – في خانة السعي لإيجاد «خيار ثالث» لمأزق النظام السياسي الأمثل في عالم اليوم؟

مبدئيا، يصعب فصل هذا الخيار عن الخلفية التراثية للمجتمع العربي، المحافظ تقليديا والرعوي عادة. وبالتالي يصعب تجاهل تأثير الخلفية الدينية على الذهنية السياسية العربية - وقد تكون الإدارة الأميركية أول من توصل إلى هذا الاستنتاج في تفضيلها الانفتاح على التيارات الإسلامية ومحاورتها عوض محاربتها كما حدث في الجزائر قبل عشرين عاما.

مع ذلك يبقى تفوق التيارات الموصوفة بالإسلامية على التيارات المدنية أو الليبرالية في انتخابات تونس ومصر والمغرب تفوقا «نسبيا»، فهي لم تنل الأكثرية المطلقة في برلماناتها، ولا تصح مقارنة نتائجها عام 2011- 2012 بما حصده الإسلاميون من أصوات، عام 1991. في انتخابات الجزائر (نحو 82%).

قد توحي هذه المقارنة بأن جاذبية التيارات الإسلامية خفتت على مر السنين، أو أن تلاوينها «المعتدلة» أصبحت أكثر تأقلما مع الواقع المعاش في مجتمعاتها. وبالمقابل قد توحي انتخابات تونس ومصر بأن المجتمعات العربية باتت، بدورها، أكثر واقعية في تقويم التبعات السياسية المحتملة للأنظمة المتشددة دينيا، وما قد تستتبعه من تمييز مذهبي، أو حتى إيماني، في مجتمعاتها، ومن حالة عزلة دبلوماسية لدولها عن العالم غير الإسلامي (تجربة «حماس» مع الأسرة الدولية).

وإذا كان الخبر اليقين عن مدى أهلية الأحزاب الإسلامية للحكم في مجتمعات القرن الحادي والعشرين سيظل رهن التجربة العملية، أي تسلمها الفعلي لمقاليد السلطة، فإن الاختبار الدقيق الذي يواجه هذه الأحزاب سيبقى مدى احترامها لمصدر سلطتها، أي لنفحة «الربيع» التي أمنت لشعوبها حرية كاملة لممارسة خيارها السياسي... فلا تتنكر لهذه الحرية إذا جرت رياحها الانتخابية بما لا تشتهيه سفنها.