المصالحة الوطنية: هل من مفر؟

TT

مرت سنة تقريبا على تاريخ اندلاع الثورتين التونسية والمصرية، ومع ذلك فإن عدم الاستقرار يكاد يكون السمة البارزة لمرحلة ما بعد الثورة في كل من تونس ومصر.

لا شك في أن أسباب السير البطيء نحو الاستقرار ومحاولة تدارك ما فات وإصلاح ما أفسدته النخب السياسية المطاح بها هي أسباب متعددة وعميقة يعود أغلبها في الظاهر على الأقل إلى بعض مظاهر الالتفاف على أهداف الثورتين وتطلعات الشعبين المشار إليهما وأيضا المشكلة الاقتصادية التي زادت في حدة التوتر وعدم الاستقرار.

إلا أنه إلى جانب هذه الأسباب وغيرها، هناك حسب اعتقادنا سبب مهم ورئيسي لم تتم مواجهته بالشجاعة والواقعية اللازمتين.

ويتمثل السبب العائق الذي سيبقى كالنار تحت الرماد إن لم نحسم أمره، في مسألة المصالحة الوطنية التي تتعارض في شأنها المواقف والتصورات.

وأعتقد أن الخطوة الأولى في مواجهة هذه المسألة المعقدة، تكمن في الاقتناع قناعة عميقة بأن هذه المصالحة أمر ضروري لا مفر منه. فالتصادم حصل بين الشعب والنخبة الحاكمة وليس من مصلحة أحد أن ينتقل بعد أن سقط النظام إلى حلبة الشعب وإحداث شرخ وانقسام بين المتهمين بمعاضدة النظام السابق والنخب التي تراوحت مواقفها بين الاستقلالية والحياد والمعارضة الراديكالية.

لقد أدى صعود نجم المستقلين خاصة المعارضين إلى دخول الكثيرين منهم في متاهات الأخذ بالثأر والانتقام عن طريق التهميش والثلب والجلد الرمزي من النخب التي كانت محسوبة على النظامين المطاح بهما.

وفي الحقيقة مثل هذا السلوك هو في حد ذاته من بقايا أنماط ممارسات ما أصبح يسمى النظام البائد وأبعد ما يكون عن ثقافة الثورة من أجل الكرامة والحرية، حيث إن الكرامة للجميع والحرية للجميع أيضا دون استثناء، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أن كل الأمراض التي كانت موجودة والتي لا يزال منها الكثير حتى في مرحلة ما بعد الثورة، قد كرسها بالقوة والقمع والمراقبة النظام السياسي ذو الخصائص الشمولية المنافية للديمقراطية ولحقوق الإنسان. ولا نعتقد أن هجرة جميع النخب إلى الخارج والاحتماء بالمنظمات الدولية وغيرها كان سيمثل حلا منطقيا وواقعيا.

من هذا المنطلق، نرى أن العلاقة الثأرية بين نخب صاعدة وأخرى مُدانة لا تصب في صالح أي طرف، بل إنها مجانية إذا ما فكرنا بعمق وواقعية وبلا مزايدات ودون أن ننسى أن الفئات المهمشة هي القاعدة الاجتماعية الأساسية للثورتين وليست النخب مهما كان دورها مهما وتمهيديا.

تحتاج المرحلة الحالية والقادمة إلى وحدة الصف الاجتماعي وتجنب أسباب الانشقاق والعمل بكل الوسائل من أجل الاندماج اجتماعيا وسياسيا وليس من حق أي طرف القيام بالمحاسبة أو إعلان القطيعة مهما كان وزنه وموقعه باستثناء المؤسسة القضائية التي تُحاسب الأفراد على جرائم قاموا بها وليس على مواقفهم واختياراتهم.

لذلك، فإن الأكثر قوة وشرعية اليوم هو الطرف المطالب أكثر من غيره بالقيام بالمصالحة الوطنية ومد جسور التعاون والعمل المشترك داخل الشعب الواحد والوطن الواحد. فأي شخص يشعر بالإقصاء وبأنه في وضعية عزل إجباري هو دون شك عبارة عن قنبلة موقوتة، ووظيفة النخب السياسية المؤقتة في تونس ومصر ليس الوقوف بالمرصاد دون عودة فلان أو فلان، وذلك لسببين: الأول أنه ليس من حقهم اتخاذ مثل هذا الموقف المنافي لحقوق الإنسان، والسبب الثاني هو أن السائس الذكي هو الذي يستفيد من الجميع خصوصا أن النخب الحالية في معظمها حديثة العهد بممارسة الحكم وبإدارة دواليب الدولة.

إن تونس لكل التونسيين ومصر لكل المصريين. هذه الحقيقة لا الشعار يجب أن تكون في ذهن الجميع، كي لا تُنتهك من طرف النخب الجديدة وكي لا يُفرط في هذا الحق من تم اعتبارهم من النخب البائدة.

لا مفر من المصالحة الوطنية الحقيقية: واحدة من الحقائق الأساسية التي توصلت إليها شعوب عاشت حربا أهلية، فما بالنا بمن عاش ثورة بكل ما تعنيه من قيم إيجابية.