تركيا: فم يسبّح ويد تذبّح

TT

هناك فرق بين القانونية والشرعية، الأولى هي صدور القرارات وفق القانون, والثانية ألا تمثل هذه القرارات تجاوزا من جانب الدول لاختصاصاتها طبقا للقوانين، أي استخدام السلطات لتحقيق أهداف لا ينص عليها القانون وهي تلك المبادئ التي نصت عليها المواثيق الدولية، من عدم استخدام القوة أو التهديد واستخدامها في العلاقات بين الدول‏ والأقاليم،‏ وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير‏‏، والمساواة في السيادة بينهم‏ وفي تسوية نزاعاتهم بالطرق السلمية، وهو سيادة منطق العدل والحق بين أعضاء الجماعة الدولية وليست مرادفا لشريعة (القوة والغطرسة) ضد المواطنين العزل. بمعنى لا يمكن إضفاء الشرعية على تصرف يتناقض مع أسس الشرعية الدولية... في كردستان تركيا المأساة تتفاقم والطائرات التركية تحرق الأخضر واليابس.. أنقرة تتحجج بأنها تستهدف عناصر حزب العمال الكردستاني المعارض، في حين تقول السلطات الإيرانية إنها تستهدف عناصر من حركة (بزاك) المسلحة على الشريط الحدودي الإيراني - العراقي، مما أدى إلى إلحاق أضرار جسيمة بأهالي القرى الحدودية والفلاحين والرعاة والمدنيين. وبسبب كثافة القصف العشوائي كما حدث في منطقة شرناخ الحدودية التي راح ضحيتها خمسون كرديا، معظمهم من الأطفال والنساء، وحيثما تجوب تلك المناطق الوعرة تلاحظ أن السكان قد أدمنوا رائحة البارود والدم المراق، جبال تُحدث في النفس الرهبة والمهابة والخوف والدهشة والإعجاب في آن واحد.. وعلى الرغم من غزارة تداخل الشجر بالحجر في هذا المكان، فإن قاطنيه من البشر!! وجزء تاريخي من هذه اللوحة، ومهما حاول السكان هنا النأي بأنفسهم عن مسارح العمليات العسكرية التي تعج بتعقيدات السياسة وأزماتها الداخلية والإقليمية، يجدوا أنفسهم دوما في عين الأزمة وهم أول من يدفعون ضريبة هذه الغارات العشوائية كما حدث مؤخرا، وهم أول من يتم نسيانهم؟ عناوين مهمة لمأساة سكان الشريط الحدودي بحيث تتصدر كبريات الصحف العالمية، وتتخلل التقارير الإخبارية التي تعرضها شاشات الفضائيات عن القصف الإيراني - التركي من دون أن يضع ذلك حدا للمأساة المستمرة، وما زالت المأساة مفتوحة على احتمالات أفظع لا تحمد عقباها، كما وصف نيجيرفان بارزاني، نائب رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني هذه المأساة بأنها حرب عبثية لا هوادة فيها.

الأكراد القاطنون في هذا الشريط يتم قصفهم بشكل مستمر لمجرد أنهم أكراد، وإن أسباب القصف سياسية بحتة، منها أولا جر الكرد إلى دوامة اقتتال داخلي بين الأحزاب الكردية وسط تشابك المعادلات الإقليمية والدولية، بينما اقتصرت المواقف الرسمية العراقية الضعيفة فقط على مطالبة طهران وأنقرة بوقف القصف، وهو ما أثار استياء منظمات مدنية عراقية ومثقفين عراقيين يطالبون بغداد باتخاذ موقف حازم تجاه «اعتداءات» دول الجوار، هذا الموقف العراقي يعرف بنقاش «الخطوط غير الواضحة»، فالحكومة العراقية لا تتحرك باتجاه تدويل الانتهاكات والتجاوزات الإيرانية - التركية وفضحها، بينما تتحمل واشنطن مسؤولية إضافية تجاه حماية الشعب العراقي لأنها ما زالت موجودة في العراق سياسيا، والقوانين الدولية تفرض عليها حماية الحدود، وكان الموقف الكردي أكثر صرامة من بغداد، فقد أدان رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، القصف العشوائي الذي يتعرض له المدنيون في المناطق الحدودية، وعده عملا يتنافى وعلاقات حسن الجوار وكل الأعراف والمواثيق الدولية.. والسبب الثاني أن إيران وتركيا وسوريا.. الثلاثة أمام مشهد متضارب تجاه أحداث الثورات العربية، بالنسبة لإيران فإن الرياء السياسي في دعم الربيع العربي بات واضحا عندما قمع النظام الحركة المعارضة في الداخل، وهي الآن تواجه خطر خسارة سوريا في حال حصلت تطورات إضافية في دمشق، والسؤال هو: ما هي القوة الإقليمية التي تحقق الفائدة الكبرى من التغيير الديمقراطي الثوري الذي يشهده العالم العربي: إيران أم تركيا؟ يطرح هذا السؤال في إشارة إلى النظامين السياسيين المختلفين جدا، في البلدين اللذين يقدمان نموذجين بغاية الاختلاف للربيع العربي في المنطقة. لا شك في أنه بالنسبة إلى الغرب (أميركا وأوروبا) تركيا هي البديل المفضل من إيران، فالنموذج التركي ذو النظام السياسي العلماني الخاضع لقيادة «حزب العدالة والتنمية» المؤيد للإصلاح أكثر جاذبية للغرب، مع هذا لا تزال تركيا شريكا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفي عيون معظم الغربيين، أنقرة ديمقراطية غير متكاملة، لكنها زميلة تطمح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. أما إيران فهي النقيض من خلال نظامها السياسي الثيوقراطي والأوتوقراطي المتشدد ويجب ألا ننسى أن واشنطن لا تتمنى تمددا إيرانيا أكثر ولا ترتاح لأن تكون إيران قوة إقليمية كبيرة ومسيطرة في المنطقة.. إن الأهداف والنوايا السياسية لطهران وأنقرة هي التي تحدد طبيعة العمليات العسكرية داخل إقليم كردستان العراقي، وقد اعتادت الدولتان استعمال العنف في أوقات السلم لإضفاء طابع المشروعية على تحركاتهما العسكرية ارتكازا على الاستثناءات الواردة في مبدأ تحريم القوة في العلاقات الدولية، فالدفاع الوقائي يجب ألا يفترض في حالة الاعتداءات القائمة والأضرار الحاصلة في الوقت الحالي، وإنما على العكس من ذلك يمكن منع هذه الاعتداءات والأضرار التي يحتمل وقوعها مستقبلا للمحافظة على السلام بين الدول واستقرار المنطقة... وأخيرا نقول على غرار التطورات الأخيرة في المنطقة، إن الولايات المتحدة الأميركية، وبعد سقوط نظام الأسد، لن تترد في توجيه الضربة العسكرية لإيران، وإن التفكير في عمل عسكري بات خيارا مطلوبا لتحجيم النفوذ والطموح النووي الإيراني الذي يشكل خطرا على السلام في الشرق الأوسط، وهي أفكار تضغط على أعصاب الإدارة الأميركية الحالية، مع مراعاة أن الحسم العسكري تجاه إيران خيار خطير وأن العاصفة هذه المرة قد لا تهدأ بسرعة، لكن المنطقة ستصبح خارج دائرة نفوذ إيران الطبيعية، ولن يكون بمقدورها التأثير على مجريات الأحداث وفق مصالحها وتوجهاتها المذهبية! والفشل في تحقيق ذلك يعني الاستمرار في إضعاف مشروع السلام، وأهل مكة أدرى بشعابها.

* كاتب كردي عراقي