ضعف الإعلام الكردي في ترسيخ الديمقراطية

TT

مهمة الصحافة - أو وسائل الأعلام بشكل عام - لا تقتصر على مراقبة أعمال الحكومة ومساعدتها في أداء وظيفتها بالشكل الذي يخدم المجتمع ويحقق أهدافه، بل تشمل أيضا نشر الثقافة الديمقراطية وتثبيت مبادئها والسعي إلى ارتقاء المجتمع إلى مصاف المجتمعات الديمقراطية المعاصرة. وهذه المهمة شاقة وتحتاج إلى جهد جهيد وتفان من قبل رجال واسعي الأفق، شجعان، يحملون الفكر الديمقراطي الإصلاحي ويحاولون نشره بين أفراد المجتمع، فالديمقراطية ليست سلعة جاهزة تستورد من الخارج، ولا «فرمانا» فوقيا يصدر من «الباب العالي»، بل هي عملية مخاض طويلة تحتاج إلى عوامل موضوعية كثيرة لتتم الولادة، ومن أهم تلك العوامل وجود استعداد ورغبة حقيقية لدى أفراد المجتمع في التغيير، وما لم يهيأ المجتمع للتغيير، فإنه لا يمكن أن يحدث أي تغيير. مهمة الإعلام تكمن في هذه النقطة، أي أنه معني بتغيير قناعات أفراد المجتمع باتجاه مبادئ الديمقراطية، أي توعية المجتمع وتثقيفه، من خلال طرح برامج جادة ومسؤولة، لها الجرأة الكافية على كشف الحقائق أمام الرأي العام ومتابعة أعمال الحكومة ومؤسساتها والتصدي للفساد المستشري فيها والمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية والفكرية، وليس فقط نقل الأخبار المجردة للناس.. يعني أن يمارس الإعلام دوره كسلطة رابعة حقيقية، وليس بوقا حزبيا أو تابعا لشخص متنفذ في الدولة كما هو الحال في إقليم كردستان، وكما هو موجود في العراق بشكل عام.

فمن بين عشرات القنوات الفضائية، وأكثر من ألف صحيفة ومجلة متنوعة صادرة في العراق (أكثر من 15 قناة فضائية و450 من الجرائد والمجلات في إقليم كردستان فقط) لا يوجد إلا القليل (لا يتعدى أصابع اليد الواحدة) يمكن أن نطلق عليه حقيقة الإعلام الحر الذي وقف لفترة أمام جبروت الإعلام الحزبي والحكومي وإغراءاته الكثيرة، مما أثار إعجاب قطاع واسع من الشعب، لكنه بمرور الزمن انكفأ على نفسه وبدأ يعتوره الضمور، بسبب الضغوطات السياسية والاقتصادية، فلا نستغرب اليوم ألا نجد إعلاما حرا يمارس دوره في مقارعة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة ومعالجة الأزمات التي تحيط بالبلد.

وكان بإمكان الإعلام الكردي، الذي بدأ أولى خطواته نحو «الديمقراطية» مبكرا وبمنأى عن إملاءات السلطة المركزية «الديكتاتورية» منذ عام 1992، أن يضطلع بدور مؤثر في ترسيخ مبادئ الديمقراطية في المجتمع العراقي بشكل عام وليس في كردستان وحدها، وحمل راية الحرية والعدالة الاجتماعية، ليكون بذلك أنموذجا يقتدى به، لكنه لم يقم بهذا الدور، لأنه في الأساس إعلام حزبي يمثل السياسة «الحزبية» السائدة في الإقليم أحسن تمثيل، يتكلم باسمها ويدافع عن مصالحها ويعمل على تعميق مبادئها في المجتمع، وللعلم لا توجد جريدة واحدة أو قناة فضائية تمثل حكومة الإقليم، كل القنوات حزبية سواء أحزاب السلطة أو المعارضة. كانت لنا قناة فضائية اسمها «هريم» (أي الإقليم) لكن لم يعد لها وجود الآن، بينما توجد في العراق جرائد رسمية (الصباح) وقناة فضائية (العراقية) تنطق باسم الحكومة. وأخطر من ذلك فقد حاول الإعلام الكردي الذي هو انعكاس للإعلام الحزبي بكل ما أوتي من دعم مالي وسياسي أن ينشر الثقافة الحزبية في المجتمع على أنها الثقافة القومية الحقيقية، ونجح في ذلك نجاحا باهرا، واستطاع أن يختزل القضية القومية العليا في الحزب ببراعة، فأصبح الحزب هو القضية والقضية هي الحزب، وبدلا أن يخدم الحزب القضية انعكست الحالة وغدت القضية هي التي تخدم الحزب، ومن الطبيعي وفق هذه القاعدة «الجدلية» أن يدعي كل حزب أنه هو الممثل الحقيقي للقضية الكردية، وأن الآخرين ليسوا على شيء.

وقد خسر المجتمع الكردي الكثير من جراء هذه السياسة الخاطئة، ومن أهم خسائره أنه ظل لأكثر من عشرين سنة يراوح مكانه ولا يتقدم، منقطعا بشكل كامل عن العالم الخارجي ولا يواكب تطوراته الديمقراطية، ولو ارتقت الأحزاب المهيمنة على السلطة إلى مستوى المسؤولية التاريخية وكرست المفاهيم الوطنية في عملها السياسي بدل الحزبية، لقدمت أروع تجربة في الممارسة الديمقراطية الفتية في المنطقة، لكنها سارت في الطريق نفسه الذي اعتادت أن تسير عليه أيام النضال المسلح، واستعملت الأسلوب القديم نفسه الذي أثبت فشله على أكثر من صعيد.

وكان من الطبيعي لهذه السياسة أن تمنى بإخفاقات عديدة من الوزن الثقيل، ومن أهمها ضعف أدائها في بغداد، وترك الساحة لثلة سياسية بعينها، والعزوف تماما عن المشاركة في صنع القرارات المفصلية بما فيها القرارات التي تتعلق مباشرة بكردستان، كتخصيص الميزانية السنوية والأمور المالية الأخرى، ومسائل النفط والغاز والبيشمركة، والمادة 140 من الدستور التي تعالج مشكلة الأراضي المتنازع عليها، الأمر الذي جعل كردستان دائما تحت رحمة بغداد وسياساتها المشروطة.