العشاء الأخير

TT

من الممكن أن يطلق علي بدون مبالغة لقب (ملك الخبز) غير المتوج، وذلك من شدة غرامي به، وقد كان أقصى طموحي منذ الصغر أن أكون خبازا، غير أن سفينة الحظ العاثر جنحت بي ورمتني في أتون الفن والكتابة العبثية التي لا تؤكل عيشا، ولا تملأ جيبا، ولا تستر عيبا.

لهذا كتبت الحديث الشريف بماء الذهب وعلقته على جدار مكتبي، وهو القائل: أكرموا الخبز، فإن الله قد سخر له السماوات والأرض.

ومن ثقافتي الرفيعة في هذا المجال أنني أستطيع، ولا فخر، أن أعدد (365) نوعا من الخبز، ابتداء من (الباغيت) الفرنسي إلى (الفطير المشلتت) المصري، تماما مثلما كان يستطيع الرئيس الراحل (ديغول) أن يعدد (365) نوعا من الجبن ابتداء من (لا فشكري) السائل، إلى (روكفر) المعفن.

وعلى هذا الأساس، أو على هذا المزاج الصعب، فمن المأساة بالنسبة لي شخصيا أن أجلس على مائدة ليس عليها خبز.

ورغم إعجابي ببعض الأطباق الصينية في الأكل، فإن بيني وبين مطاعمها ما صنع الحداد، وذلك كله لأنها تخلو تماما من حبيب قلبي.

وفي يوم من الأيام تورطت في ما لا تحمد عقباه، وذلك عندما دعاني رجل محترم لا أستطيع أن أرد له طلبا، بسبب شدة تعلقي به ونفاقي له طلبا للمصالح التي يستطيع هو بإشارة واحدة منه أن يبذلها لي أو يقطعها عني.

وأسقط في يدي عندما اتصل بي في التليفون يخبرني بالموعد واسم المطعم، الذي ما إن عرفت اسمه حتى انلوح رأسي، فهو مطعم صيني مشهور.

وأخذت أضرب أخماسا بأسداس، وأحسبها وأقلبها وأوزنها، فالرجل عزيز إلى قلبي وفيه (عراش وشحمة مدهنة) ومن الجنون أن أخسره، خصوصا أنني وافقت منذ البداية على شرف دعوته لي، كما أن (الخبز) أيضا عزيز على قلبي، ووقعت فعلا في (حيص بيص) مثلما يقولون.

فاتخذت القرار الحاسم المبني على المثل المشهور: (لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم).

فضربت نفسي بالشيطان الرجيم، أي لبست ما قدرني الله عليه من أفخر الأزياء، وبالعربي غير الفصيح (كشخت) ببدلة من ماركة (أرماني)، معتقدا أنني لا أقل عن أي مانيكان من صعاليك الرجال، وذهبت مشيا على الرصيف أخطو بخطوة الإوزة العسكرية، وقبل أن أصل إلى المطعم دلفت إلى أحد المخابز واشتريت قطعة خبز و(دحشتها) في جيبي، وما إن دخلت إلى المطعم حتى وجدت طويل العمر متصدرا المائدة يحف به جمع من حاشيته. أخذت مقعدي، وأخرجت خبزتي العزيزة ووضعتها بجانبي، وجاء (الغرسون) ليأخذ الطلبات، وما إن ضرب بعينه وشاهد الخبزة حتى تغيرت ملامح وجهه، ورفض السخيف أن يأخذ الطلبات إن لم يرم الخبزة في سلة المهملات، في الوقت الذي شعرت فيه أنا بالإهانة، ورفضت بكل إباء وشمم وتشبثت بخبزتي مثلما يتشبث الطفل بأمه.

طبعا كان الموقف محرجا، ولا أريد أن أحكي لكم تبعاته، ولكن باختصار قال لي الرجل: (اقضب الباب)، وخرجت مع خبزتي إلى الرصيف، فيما أكمل هو عشاءه مع حاشيته في المطعم.

[email protected]