رأسمالية الدولة!

TT

مع الإجراءات الحادة التي أقدم عليها الرئيس الأميركي باراك أوباما لإصلاح ما يمكن إصلاحه في اقتصاد بلاده المتهاوي والمترنح بشدة في أول تسلمه لسدة الحكم، تعالت أصوات المعارضين لسياساته وتوجهاته واتهموه بأنه اشتراكي في السر ويريد تأميم البلاد بشكل غير مسبوق. ولكن بالتمعن في الإجراءات التي أقدم عليها باراك أوباما ومقارنتها مع دول أخرى حول العالم نجد أن هناك حالة جديدة من الرأسمالية التي باتت تقتضيها الظروف والتطورات، إنها رأسمالية الدولة، وهي تختلف كثيرا عن الشكل القديم لاقتصاد القطاع العام المركزي الذي كانت عليه حكومات الستينات من حقبة القرن الماضي. فاليوم من العادي جدا أن نرى كبرى الشركات الرئيسية في الصين تتبع الدولة.. شركة النفط العملاقة «سينونك» وشركة الاتصالات «هاواي» وشركات مختلفة في مجالات صناعة السفن والمعدات الثقيلة والسيارات وغيرها. وفي روسيا من السهل جدا أن نرى أهم البنوك والمصارف وشركات الطيران وتصنيع السيارات والشاحنات ومصنع الطائرات الأكبر.. كلها تعود للدولة والملكية الرئيسية فيها لها، وكذلك بطبيعة الحال شؤون إدارتها.

ونفس الحال لا يمكن إغفاله لاقتصادات أصغر مثل ماليزيا وبرجيها العملاقين في عاصمتها كوالالمبور والتابعين لشركة النفط الكبرى بها «بتروناس». وذات الشيء بالنسبة لتركيا حيث شركات المقاولات العملاقة ومواد البناء على سبيل المثال لا الحصر، وكذلك الأمر في المكسيك وفي البرازيل وجنوب أفريقيا. وحتى العالم العربي تبدو هذه الظاهرة شديدة الوضوح، فالاقتصاد العربي الأكبر فيها التابع للسعودية يلاحظ أن أهم المؤثرين فيه شركات تتبع ملكيتها للدولة بشكل أساسي مثل «أرامكو» و«سابك» و«الاتصالات» و«البنك الأهلي» و«بنك الرياض» و«بنك الإنماء» والعديد من الشركات الأخرى.

وطبعا في دول الخليج الأخرى نرى هذا الأمر بصوره المختلفة في شركات الطيران الناجحة مثل «الإمارات» و«الاتحاد» و«القطرية»، وشركات التطوير العقاري والعمراني مثل «إعمار» و«الديار» و«الدار» و«شمس» والكثير من الأنشطة اللافتة جدا.

والذي يجمع كل هذا الطرح هو أن حجم الدولة المؤثر هو الداعم الحقيقي لدفع الثقة في هذه الكيانات، ولكن الدولة تدرك جدا اليوم أنها لم تعد قادرة على إدارة الشؤون الاقتصادية بالشكل المركزي الركيك الذي كانت تدار به الأمور قديما، ولذلك باتت هناك نماذج وقواعد ومعايير ومقاييس للأداء مطلوب الالتزام بها بحسب الشركات العامة الناجحة عالميا، وأن يكون الربح والعائد وكذلك النمو والتطوير إضافة للعائد الاجتماعي من المنشأة على الاقتصاد ككل للبلاد بدلا من النظر إليه كوحدة للتوظيف والتكديس البشري والخلاص من أرتال العاطلين عن العمل.

ولعل المثال الأكثر نجاحا واستشهادا به هو نموذج سنغافورة الذهبي والذي بات معيارا تقاس به تجارب اقتصاد الدولة الرأسمالية، وعلى الرغم من تحفظ البعض على المقارنة بالنموذج السنغافوري لصغر حجم سنغافورة وبالتالي سهولة التحكم بها والتأثير عليها على عكس الدول الأكبر والأصعب، ولكن الأساس هنا يبقى الهدف وأسلوب تطبيق الخطة للوصول إلى النتيجة المأمولة، وهي مسألة نجحت فيها سنغافورة بامتياز وأبهرت العالم في مجالات إدارة المطارات والموانئ وشركات الاتصالات والفنادق والمرافئ والمواصلات العامة والطيران وتمكنت من تصدير هذه «الثقافة» للغير، وبات أشهر المستفيدين منها هونغ كونغ ودبي وأبوظبي والدوحة والبحرين وغيرها.

في الخمسينات الميلادية من القرن الماضي أقدمت اليابان وكوريا على نموذج الرأسمالية التابعة للدولة ولكن بأسلوب مغاير لاحتياج اليوم، والأكثر أهمية والأكثر تعقيدا، وهناك رأي أن الأزمة الأوروبية الخانقة في أوروبا ستعزز من هيمنة رأس مال الدولة الاقتصادي بشكل أكثر وضوحا في القطاعات الحيوية الكبرى الصناعية والخدمية والمالية. وبالتالي سيعني ذلك أن الرأسمالية المتوحشة الموتورة وغير المنضبطة أصبحت منبوذة ومفضوحة ولا مكان لها.. هل هي حالة مؤقتة أم قناعة راسخة؟ يبقى السؤال قائما.

[email protected]