مصر تتحدث مع نفسها!

TT

شهد المصريون البارحة ولادة مجلس شعب جديد، أول مجلس شعب يمثل الناس بشكل حقيقي منذ انقلاب 1952 الذي قام به العسكر وكرسوا الحكم الديكتاتوري في البلاد. كانت انتخابات مجلس الشعب في السابق مثالا صارخا للاستبداد والتسلط، إذ كان لا يمكن أن يصل إلى مقاعد البرلمان سوى ما يريده الحاكم بشكل مطلق أو ما تفرضه الانتخابات المزورة والإجراءات المليئة بالترهيب والبلطجة. دخل الأعضاء المنتخبون وسط أجواء حذرة وفرحة وقلق، ودخلت مصر مع هذا المجلس منطقة جديدة وغير مسبوقة؛ شفافية لدرجة الفوضى ورغبات وأمنيات تصل لدرجات المستحيل.

الطموح كبير ولكن كذلك التحديات كبيرة. شعارات كثيرة مرفوعة ويتم تلوينها ليلا ونهارا بالأعلام والرايات ويصيح بها المتظاهرون في الأزقة والميادين، وهي في معظمها شعارات شديدة المثالية ولكنها خالية من التفاصيل وشرح للكيفيات. شعارات تحمل نصرة للدين وتنادي بذلك، وشعارات تتغنى بالعدالة والحرية والحقوق والكرامة. ولكن كم ستكون صعبة وممتعة في آن واحد مسألة الدخول في التفاصيل، فالحكم سيكون للدستور، والدستور مرجعيته الشرع، والشرع سيتم الدخول في تفاصيل مقاصده للاتفاق على البنود، إذ إن العلاقة بين المواطن والمجلس والسلطات التنفيذية يجب أن تكون واضحة، لأنه من خلالها ستتم حماية الحقوق وتوضيح القصور، وبالتالي تستحق العقوبة في حالة القصور في تنفيذها بدقة وأمانة.

هناك رغبات شخصية موجودة لدى بعض الأحزاب الفائزة في الانتخابات لإثبات جدارتها وجديتها ومحاسبة سنوات السمعة السيئة التي كانت تروج بحقها من السلطات الحاكمة سابقا، وقد يكون ذلك منزلقا خطيرا للانتقام بأشكاله المختلفة السيئة. وغيرها من الأحزاب ستكون مصابة بحالة من الرغبة في تحقيق المنجزات الخاصة بها على عجالة وبسرعة، كسبا للوقت وتحقيقا للفائدة، ولكن بهذا الأسلوب حتما سيكون الدرب غير توافقي وعرضة للانقسام الحاد والتطرف في الطرح وسط مناخ هش وقلق ومضطرب جراء الانقسام السياسي الواضح الذي لم يهدأ حتى الآن منذ أن تنحى الرئيس السابق حسني مبارك عن منصبه وسلم إدارة شؤون البلاد للمجلس العسكري الأعلى.

يتسلم مجلس الشعب الجديد زمام الأمور وسط تهديدات جادة للغاية أطلقت من منظمات شبابية مختلفة ستنزل للشارع في ذكرى مرور عام على ثورة يناير لإحساسها بأن الثورة لم تحقق أهدافها (وهي مسألة لا يتفق عليها كل من شارك في الثورة)، ويعتقدون أيضا أن هناك مؤامرة عليهم حصلت من الأحزاب الدينية، التي فازت، مع المجلس الأعلى لإخراج الثوار الشباب ومن معهم من المشهد السياسي برمته وإعادة تصويرهم بأنهم مجموعة من المشاغبين ومجموعة من البلطجية والخارجين عن القانون الواجب عقوبتهم وردعهم، بل إن منهم من يعتبر كل ذلك تخوينا لهم وتشكيكا صريحا في وطنيتهم وأهدافهم.

وسط كل هذا التجاذب لا يمكن إغفال الدور الرائد وغير المسبوق للأزهر كالمرجعية الإسلامية الأعقل والذي قدم وثيقة سياسية باتت تعتبر أهم وثيقة سياسية تقدمية في التاريخ الإسلامي الحديث، تعتبر مرجعية هائلة تخاطب أسلوب الحكم والعمل البرلماني والحقوق والانتخابات وتجيب بوضوح عن مسائل شائكة مثل المواطنة والمرأة والعلاقات مع الآخرين وحرية الأديان ودور العبادة، وبذلك يضع خطا دينيا صريحا أمام المزايدات الصغيرة من الأطراف الأخرى التي «فرحت» بما عرفته من دين بشكل سطحي وركيك وباتت تروج لنفسها أنها حامية الإسلام والمتحدث الرسمي باسم رسالته السمحة، وطبعا الشعب المصري عاطفي ومتدين بطبعه ويستهويه الحديث عن الدين فينجذب إليه بسهولة.

المصريون انتخبوا مجلسا مغايرا تماما للشكل القديم الذي كان عليه المجلس القديم، أملا في أن يكون ذلك لهم بداية جديدة، وهم بذات الدرجة لن يكونوا مسامحين إذا فشل المجلس في تحقيق الطموح الهائل لشعب محروم عانى عقودا من الإهمال والتسلط والفساد والإساءة. يشاهد العالم الإسلامي بتمعن ما يحدث في مصر وذلك لثقل وأهمية التجربة المصرية و«حجمها» المؤثر،.. الفشل سيكون مكلفا والنجاح سيكون مفيدا، حتما مصر تغيرت ولكن يبقى الانتظار قائما لمعرفة شكل وحجم التغيير.

مصر في حالة عصف ذهني ومراجعة هائلة، ومجلس الشعب هو الموقع والمطبخ الأكبر لذلك، وتبقى النتيجة.

[email protected]