حكم القضاء.. والتاريخ

TT

في العادة يتعرض القادة والزعماء لنوعين من الحكم عليهم عندما تثور عليهم شعوبهم: حكم القضاء - ثوريا أو عاديا - الذي ينظر في وقائع وأحداث جرت لا يظن أحد في أوقات سابقة أنها كانت كافية لتغيير نظام الحكم؛ وحكم التاريخ الذي يحكم على عصر بأكمله وسياساته والمدى الذي ذهب إليه في أخذ البلاد إلى الأمام أو جذبها إلى الخلف. ولا بد أن الحكم هنا أو هناك سوف يجد معضلة كبرى أمام النظر في حالة حسني مبارك حينما يجده حكم بلدا بحجم مصر على مدى 30 عاما، لا ينافسه في مداها الزمني إلا قلة ممن حكموا مصر على كثرتهم طوال التاريخ؛ بينما لم يحتج الزمن للإطاحة به لأكثر من 18 يوما. ماذا جرى للرجل وصحبه ممن اختارهم لكي يكونوا حوله فيقبضون على أمر البلاد طوال هذه المدة بالسياسة وبيد من حديد، ثم بعد ذلك لا يوجد إلا خواء وقبض الريح؟

التفسيرات كثيرة لا شك، ومع مرور عام على ثورة يناير (كانون الثاني) فإن زحاما من الكتب حول ما جرى أخذ في الظهور يرصد المساحة ما بين «الصعود والسقوط» أو ما بين «المنصة والمحكمة»، أو قصة ثمانية عشر يوما هزت التاريخ، حتى نصل إلى «الساعات الأخيرة» لما جرى للرئيس المصري الذي كان ملء السمع والبصر، ثم إذا هو راقد على سرير في قفص وسط محكمة يحرسه أو يحجبه ولداه - لا فرق فهما أيضا متهمان - في مشهد يقف على حافة ما بين الدراما والتراجيديا.

وفي الظن أن الرؤساء والنظم لا يسقطون فجأة أو دون سبب أو لأن مؤامرة أجنبية حركت ثمانية عشر مليونا ضدهم؛ ولكن الواقعة ربما تكمن في أن أسباب استمرار مبارك طوال هذا الزمن في الحكم، كانت هي ذاتها واقفة وراء انتهاء حكمه الذي لم ينته بقتل، ولا توقف نتيجة هرب الزعيم، وإنما غربت الشمس ثم أشرقت على الرجل الذي يدخل في مواجهة قانونية مع الثورة التي ثارت عليه.

كل من عرفوا مبارك الشخص والرئيس ركزوا على وظيفته كطيار يحتاط دائما، ويحفظ التفاصيل، ويعرف متى يطير، ويتأكد من خطوات الهبوط. ومع تكرار العملية مرات كثيرة فإن الخطوات تصير محفوظة ومحسوبة، وعندما تأتيها الأزمات نتيجة الضغط الجوي أو عواصف طارئة، فإن كتاب الطيار يعرف كيفية التعامل معها. وعندما جاء مبارك إلى حكم مصر كانت البلاد بسيطة، وما كان فيها من تعقيد عرفه الرجل خلال ستة أعوام كان فيها رئيسا للجمهورية. وللحق إنه ساعة اغتيال الرئيس السادات لم تكن البلاد فيها الكثير مما يسر، ولم يكن فيها إلا القليل كما هو مجهول. ولم يكن أمام مبارك إلا أن يفك العقد التي يعرفها فيفرج عن المعتقلين الذين اعتقلهم السادات، ويعقد مؤتمرا اقتصاديا ليحل معضلة انفتاح «السداح مداح»، ويحدد أهدافه الاقتصادية في بناء البنية الأساسية، وحتى عندما جرت أحداث الأمن المركزي وجرى تدخل الجيش لم تستغرق الأزمة إلا أياما بعدها كانت مصر على استعداد لاستضافة كأس الأمم الأفريقية. كتاب السياسة الخارجية كان معروفا، وما فيه من «عملية السلام» غيابا أو حضورا كان جزءا من «روتين» يعرفه الجميع، وعندما قامت العراق بغزو الكويت لم يكن لديه مشكلة في معرفة أين يقف على وجه التحديد، فقد كانت المصالح والمبادئ المصرية نقية وصافية لا تعطي مجالا للشك أو الغموض.

كانت القبضة محكمة عندما كانت مصر بسيطة بساطة قيادة طائرة، ولكن مصر لم تكن كذلك بعد ثلاثة عقود، ولم يكن الطيار على استعداد لمعرفة ما جرى. لم يكن في ذهنه من حقائق عن البلاد، لم يكن فيه أكثر من الزيادة السكانية التي كان يراها سبب البلاء والقلق. أكثر من أربعين مليونا نعم أضيفوا إلى القوائم المصرية منذ وصل الرئيس إلى السلطة، ولكن المعضلة لم تكن عددا بقدر ما كان وراء هذا العدد من نوع وتعقيدات لم يفلح العقل الرئاسي في فك طلاسمها، خاصة أن العمر والمرض أخذا من الحكمة وما تبقى لم يكن أكثر من إدارة سرعان ما ثبت أنها لا تكفي. وعلى سبيل المثال فإن التركيبة الديموغرافية للسكان لم تعد كما كانت، فنتيجة السياسات الصحية سجلت مصر أفضل المعدلات في انخفاض وفيات الأطفال في العالم، وكان معنى ذلك أن الهرم السكاني احتوى على نتوء يحتوي على ربع السكان أعمارهم ما بين 18 و30 عاما. هؤلاء عاشوا أيضا نتيجة عمليات متتابعة للإصلاح الاقتصادي تتقدم خطوة وتقف من وقت لآخر، إلا أنها في النهاية خلقت طبقة وسطى جديدة لم تعد تعتمد على الحكومة في تعليمها وتشغيلها. وأكثر من ذلك فإنها مرتبطة بالعالم من خلال شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي.

وفي يناير 2010 كان هناك قرابة 23 مليون شاب مصري يدخل على الشبكة العنكبوتية ولا يهمه كثيرا ما يجري داخل الحزب الوطني الديمقراطي، ومن جانبه فإنه لا الحزب ولا الرئيس كان يعرف ماذا يدور في عقل هؤلاء. ولما كان ذلك كذلك فإن الثورة الإعلامية التي ساهم فيها مبارك، وكل حكومات المنطقة العربية تقريبا، توجهت بسرعة ومن خلال أساليب متعددة لنزع الشرعية عن الحكم الذي قدم مادة من الفساد وعلاقة المال بالسلطة، وأخيرا شبهة توريث الأب للابن التي بدأت في سوريا ووجد الجميع أنها سوف تكون أسلوب التغيير السياسي في المستقبل. وجرت هذه التفاعلات بينما حزب الرئيس عاجز تماما عن استيعاب الإصلاحيين داخله، بل إنه كان يعزلهم باعتبارهم جماعة من الحالمين والمتشبهين بالمعارضة، وأكثر من ذلك المعارضة خارجه، فكان ما جرى من تزييف الانتخابات النيابية في خريف 2010 التي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.

بالنسبة لمبارك كان الأمر معتادا، ولم يكن تعبيره الشهير إزاء المعارضة «خليهم يتسلوا» إلا انعكاسا لما ظل عليه من اعتقاد في بساطة لم تعد موجودة في البلاد، وعندما توالت الكوارث، كان الوقت أمامه ممتدا لمواجهتها، وعندما سألته على طائرة الرئاسة أثناء رحلة في منطقة الخليج قبل أسبوع من نشوب الثورة عما إذا كان ضروريا أن يقوم بعمل يخط به الطريق إلى المستقبل - وكنت أعني وقف الطوفان المقبل - واقترحت تغيير الوزارة وتشكيل لجنة للتعديلات الدستورية، كان رده أنه سوف ينتظر حتى تنتهي الانتخابات الرئاسية، أي بعد عشرة أشهر، وبعدها سوف ينظر في هذه المسائل. والحقيقة أن الرجل لم يكن أمامه أكثر من أيام حتى تأتي العاصفة، وعندما جاءت ظل الوقت ممتدا أمامه فجاءت استجابته متأخرة دائما، وأقل مما يلزم في كل الأوقات، وبعدها لم تعد مصر كما كانت.