مياه طرطوس.. الدافئة

TT

لجوء روسيا إلى حق النقض لإفشال أي مشروع قرار دولي يفرض عقوبات على النظام السوري، وزيارة الأسطول الروسي «الأخوية» إلى ميناء طرطوس، لا يعكسان متانة العلاقات الثنائية بين موسكو ودمشق بقدر ما يؤكدان حرص موسكو على مصالحها الاستراتيجية الذاتية في العالم ككل، وفي البحر المتوسط تحديدا.

منذ عهد القيصرة كاترين الثانية (1762 ميلادي) وهاجس روسيا الاستراتيجي كان، ولا يزال، الحصول على «موطئ قدم» في «المياه الدافئة» يخرجها من قدرها الجغرافي كدولة مسدودة المنافذ البحرية (70% من حدودها الدولية برية) ومحاصرة بالمياه الباردة، فبحور ساحليها الشمالي والشرقي تظل معطلة بالثلوج لأشهر كثيرة كل سنة، بينما عدد ثغور المياه العميقة الصالحة للاستعمال على مدار السنة محدود جدا بالنسبة لدولة تتطلع لأن تبقى قوة دولية عظمى (وهذا الواقع الجغرافي جعل روسيا الدولة الأوروبية شبه الوحيدة التي تخلفت عن سباق استعمار أفريقيا وآسيا في القرن التاسع عشر).

وإضافة إلى هذه الاعتبارات باتت روسيا اليوم مهددة بفقدان قاعدتها الوحيدة «الدافئة» في سيباستوبول (التي أصبحت خارج أراضي روسيا الاتحادية بعد «إهداء» نيكيتا خروشوف شبه جزيرة القرم لأوكرانيا عام 1954) وانفصال أوكرانيا عن روسيا عام 1991.

عهد فلاديمير بوتين لا يقل قومية (بل شوفينية) عن عهد كاترين الثانية. وحكومة بوتين تعلم تماما أن قاعدة روسيا الأساسية في سيباستوبول، بوضعها القانوني القائم منذ عام 1997، قاعدة مستأجرة من أوكرانيا لمدة عشرين سنة فقط، وهذا الوضع يواجه روسيا بثلاث إشكالات مستقبلية أولاها اقتراب موعد انتهاء عقد الإيجار بحلول العام 2017 - الأمر الذي لا يشجع على إنفاق مبالغ ضخمة على تحديثها - وثانيتها اعتراف العقد بسيادة أوكرانيا الكاملة على القاعدة وعلى التسهيلات المقدمة للأسطول الروسي فيها، وثالثتها منح أوكرانيا حق إنهاء الإيجار بمجرد إبلاغ موسكو برغبتها هذه قبل سنة واحدة من انتهاء مدة العقد – أي في عام 2016.

وبالمقابل، تتخوف روسيا، في حال استمرار عهد الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش لغاية عام 2016، أن يرفض تمديد عقد إيجار القاعدة نظرا لميوله الغربية وتحبيذه انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

على خلفية هذا الوضع أصبحت طرطوس، التي تروي غليل روسيا التاريخي إلى «المياه الدافئة»، أهم بكثير - في حساباتها الاستراتيجية - من الشعب السوري ومطالبه، كما أصبح النظام السوري متنفس روسيا الوحيد في حوض البحر الأبيض المتوسط، فساحله الشمالي تتقاسمه دول أوروبية ترتبط بحلف عسكري مع الولايات المتحدة، بينما تسيطر على ساحله الجنوبي دول أكثر تعاطفا مع واشنطن مما هي مع موسكو. معطيان استراتيجيان يصعب على بوتين تجاهلهما: كون سوريا اليوم «الصديق» الوحيد لروسيا في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكون طرطوس نافذتها المستقبلية على «المياه الدافئة».

تدرك موسكو أن طرطوس قد تصبح، في يوم غير بعيد، البديل الوحيد لقاعدة سيباستوبول على البحر الأسود، وربما البديل الأكثر أهمية كون تسهيلات طرطوس تسمح للأسطول الروسي بتجاوز قيود المرور في مضيق الدردنيل التي تفرضها معاهدة مونترو (1936) على حركة القطع البحرية إبان النزاعات العسكرية. لذلك تأمل موسكو أن توافق سوريا، في مستقبل قريب، على تحويل طرطوس إلى قاعدة ثابتة لأسطولها - لا مجرد محطة للتزود بالوقود والمؤن - بموجب ارتباط تعاقدي شبيه بترتيباتها الراهنة في سيباستوبول، وقد تكون مواظبة روسيا، بأمانة مذهلة، على تقديم «خدماتها الدبلوماسية» للنظام السوري في مجلس الأمن مدخلها السياسي لجني المكسب الاستراتيجي الذي تتطلع إليه في طرطوس. من هنا تبدو حسابات الآملين في تراجع محتمل في موقف موسكو الداعم للنظام السوري أقرب إلى الطوباوية منها إلى الواقعية، ففي عالم العلاقات الدولية ما تفرضه المصلحة لا تفسده السياسة.. فكيف إذا كانت هذه المصلحة مطلبا استراتيجيا حيويا لدولة كبرى، مثل روسيا الاتحادية؟