الأسد والفلاح

TT

نصف السوريين لا يزالون يؤيدون الرئيس بشار الأسد، بحسب ما جاء في تقرير أميركي، هذا على الأرجح لا يجانب الصواب. البعض لا يزال يفضل الانتظار، بينهم بعثيون، وأكراد، وفئة لا تريد أن تدخل المعمعة الدموية، وأقليات تخشى عواقب التغيير. هؤلاء يتمهلون حتى ترجح الكفة بقوة لجهة ما، لكنهم مع ذلك، يعاقبون من النظام إن لم يصرحوا بتأييدهم له، ويواجهون بشكل أكبر من الثوار إن لم يعلنوا انحيازهم الكامل للثورة. ثمة أصحاب محلات في سوريا، يفضلون أن يتوقفوا عن العمل كليا حفظا لدمائهم، فهم يحسبون على الثوار إن تجاوبوا مع الإضرابات، ويضعون في خانة النظام إن فتحوا دكاكينهم. والطرفان يعاقبان بالأسلحة والسكاكين حين يقتضي الأمر ذلك، لهذا في الحالتين يبقى المترددون عالقين بين فكي رحى.

ينسى البعض أن الدولة في سوريا هي التي تطعم الناس وتشربهم، وتعلمهم وتطببهم، والقطاع الخاص أضعف من أن يقوم بالحمل، وكثيرون لا تزال حياتهم اليومية مرهونة بالتقديمات العامة.

السوريون في غالبيتهم مزارعون أو موظفون. انحياز بشار الأسد عكس أبيه تماما (المتحدر من بيئة فلاحية) لفئة الموظفين بدل المزارعين، مع الانفتاح الذي انتهجه لصالح المستثمرين على حساب العاملين في الأرض، أنتج إحساسا كبيرا بالغبن. ارتفعت رواتب الموظفين منذ عام 2009 الضعفين، وعلا نجم المتمولين مقابل تراجع كبير في دعم المزارعين، والأغلبية الكاسحة من البسطاء. سياسة الانفتاح التجاري التي ترافقت مع تقليص الدعم، رفعت أسعار الأسمدة والبذور والآليات. ثمة مناطق، خاصة الشرقية منها، صارت تدفع حتى ثمن المياه التي تروى منها التربة، لأنها ملزمة بتسديد فواتير مازوت المضخات الذي ارتفعت أثمانه أيضا.

ليست صدفة أن تبدأ الثورة من درعا التي كانت تشكو من صعوبة تصريف المحاصيل مع زيادة في الإنتاج، بسبب ارتفاع التكاليف الأولية مما حكم على المزارعين بخسارة تلو أخرى. بقي الفلاحون أساسا ومحركا للثورة من درعا إلى تلكلخ، مرورا بالأرياف في حلب وحمص وحماه ودمشق. إنها الطبقة الأكثر غضبا وسخطا على النظام، وهؤلاء أنفسهم ازدادوا فقرا وحرمانا مع تصاعد الثورة، وتطبيق العقوبات العربية ولو جزئيا على سوريا.

لا تستغرب أن يقول لك سوريون إن «العقوبات استهدفت الشعب وليس النظام». توقف شركات البترول الأجنبية وشح المازوت ومشتقات البترول، عطّل حياتهم، وتركهم في برد الشتاء القارس بلا تدفئة، تفخيخ المناطق الحدودية مع لبنان بعد الثورة جعل التهريب الذي كانت تعتاش منه المناطق الغربية الزراعية مستحيلا، وأغلق الباب على مداخيل مهمة.

القادرون على الصمود اليوم، بشكل جزئي ومؤقت جدا هم الموظفون الذين ما عادوا يتسلمون معاشاتهم في الثلاثين من الشهر، وإنما بعد انقضاء أسبوع أو أكثر من الشهر الذي يليه.

الطلاب السوريون في لبنان، وعددهم بالآلاف، يشكون بأنهم بعد أن فقدت الليرة السورية 50 في المائة من قيمتها، لا يستطيعون الاعتماد على مساعدات عائلاتهم، إلا تلك التي لها وظيفة أو أكثر في الدولة. مع مرور الوقت واشتداد الأزمة، لن تبقى لهذه الطبقة هي الأخرى من مقومات معيشية كافية في الداخل فما بالك بإعالة أولادها في الخارج، هؤلاء الطلاب لا يتحدثون عن الحرية كثيرا وإن كانوا يحاولون التظاهر يوميا إن أتيحت لهم الفرصة أو أسبوعيا ولو بأعداد قليلة، الكلمة التي تتردد على شفاههم باستمرار هي: «الكرامة».

التقارير التي تتسرب من واشنطن تتحدث عن حيرة الإدارة الأميركية أمام تماسك الجيش السوري وصلابته حتى الآن، وهو ما يعيده السوريون أنفسهم، إلى بنية عسكرية خاصة جدا ركبت خصيصا طوال السنوات الماضية، لتقاوم هذا النوع من الأزمات.

في المقابل فإن نقطة الضعف الفعلية للنظام السوري، في الشهور المقبلة، لن تكون الجيش بقدر ما ستكون فاقة الأهالي، وارتفاع ثمن المواد المعيشية الأولية، وعجز الدولة عن توفير احتياجات الناس، معضلات متأتية في غالبيتها من الحصار الاقتصادي، وشلل الدورة الحياتية للبلاد.

بالتالي فإن خارطة طريق الجامعة العربية التي يرفضها النظام اليوم، ستصبح أكثر واقعية غدا، حين يقتنع المترددون أن النظام بات عاجزا بالفعل عن الاستمرار، ويعرف النظام أنه صار يصارع طواحين الهواء.

ما اقترحته الجامعة يبدو متماشيا تماما مع الدستور السوري الذي ينص في المادة 95 منه على أن «يتولى رئيس الجمهورية تعيين نائب له أو أكثر ويفوضهم ببعض صلاحياته، وتسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه، وتسمية الوزراء ونوابهم، وقبول استقالتهم، وإعفاءهم من مناصبهم».

لا يتطلب الأمر أكثر من تفعيل هذه المادة التي جمدت طويلا وتم تجاهلها، ليتنازل الرئيس عن صلاحيته في تشكيل حكومة وفاق وطني وصلاحيات أخرى إلى نائبه فاروق الشرع ابن درعا، الذي حافظ على حيادية لافتة طوال الثورة.

أما تنحي الرئيس، وهو النقطة الأصعب، فلعلها ستحل على الطريقة اليمنية، بالتدريج وبمفاوضات طويلة وعسيرة.

التدخل الأميركي والأوروبي العسكري الذي تحلم به المعارضة السورية لا يزال بعيد المنال على الأقل حتى انتهاء الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012. وفي الانتظار ستنهك الثورة النظام، وسيكتشف حكام سوريا أن العودة إلى الوراء باتت مستحيلة. وأمام انسداد الأفق وظلام الاحتمالات الدموية، قد يرضخ الجميع لتسوية ليست مثالية لأحد، لكنها المخرج الوحيد المتوفر، لغاية اللحظة، لإنقاذ سوريا من حرب أهلية تطرق الأبواب.