دروس ما جرى: الإسلام والشعب: الرصيد الأعظم للحكام المسلمين

TT

لا تفتأ دروس ما تعورف عن تسميته بـ(الربيع العربي).

لا تفتأ هذه الدروس تنثال وتتنوع وتتعمق.

1 ـ ويأتي درس (التأثير العظيم) للإسلام في طليعة تلك الدروس.

فلقد بدأ الربيع العربي وكأنه سلسلة أحداث انتهت بوصول (الإسلاميين) إلى الحكم في أكثر من بلد عربي ونحن نعلم جدالا هائلا قد نشب - وسيظل ينشب - حول وصول الإسلاميين إلى السلطة.. ولن نحشر أنفسنا في هذا الجدل، ذلك أن هذا المقال مختص باستخلاص الدروس من هذه الحالة أو الظاهرة.

لماذا قطف الإسلاميون ثمرة الحراك السياسي والشعبي في بلدان عربية عديدة؟

من أهم أسباب فوزهم بذلك: أنهم قدموا أنفسهم: محبين للإسلام، ساعين إلى نصرته والدفاع عنه، على حين كان مناوئوهم من الحكام يظهرون وكأنهم على الضد من ذلك.

وهذه المفارقات أو التناقضات هي السبب الرئيسي في تقدم الإسلاميين - شعبيا - وفي تأخر أولئك الحكام على المستوى الشعبي أيضا.

يا حسرة على الحكام!!

ماذا كان يخسر الحكام لو أنهم رفعوا ذات الراية، وانحازوا إلى الإسلام وأظهروا محبته، وعملوا على نصرته؟

لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، لو فعلوا ذلك لظفروا بتأييد شعبي عميق وواسع النطاق.. وهنا نطرق - من جديد - مسألة القدرة على (التطبيق). فقد يقول حاكم ما: إننا لا نستطيع تطبيق الإسلام كله في هذه الظروف المحلية الدولية العصيبة والمعقدة.. ونقول: ليس في الإسلام ما يجبر المسلمين على تطبيق (كل) شريعة الإسلام جملة واحدة، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز لابنه الذي طالبه بمثل ذلك: «يا بني: نترفق بالناس، فإننا لو حملناهم على الإسلام جملة واحدة، تركوه جملة واحدة»!!

ومعروف في الفقه الإسلامي، وفي أصوله: تلك القاعدة الموضوعية الواقعية العقلانية وهي: «أن أداء الواجب مشروط بالقدرة عليه». وهي قاعدة تنتظم الواجبات الفردية: كالصلاة والزكاة والصيام والحج كما تنتظم الواجبات الشرعية المنوطة بالدولة.

ذلك كله مع افتراض وجود حسن النية.

فإذا أدير الحديث عن زاوية أخرى، فإنه يمكن القول: إن المراهنة السياسية على (انحسار الإسلام) إنما هي غباوة سياسية يمليها قصر نظر وبيل إلى أضلاع الزمن الثلاثة: التاريخ والحاضر والمستقبل.. فلقد مرت عن الإسلام منذ انبثاق نوره تحديات رهيبة: محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم وفتنة أنصاره بكل صنوف الفتنة والتعذيب.. ثم الحروب التي شنها الكفرة والمشركون بهدف استئصال الإسلام وطي راياته مبكرا.. ثم في عصور تالية شنت على الإسلام الحروب الصليبية، وحرب التتر.. ثم موجات الاستعمار، إلى غير ذلك من مخططات الحرب والاجتثاث.. ومع ذلك ظل الإسلام حيا قويا مضيئا يرسل أشعة سناه إلى قلوب الأفراد والجماعات في كل مكان، حتى في تلك البيئات التي سادها (الإلحاد الرسمي)، وطورد فيها الإيمان بالله أيما مطاردة.

وتلك عبرة التاريخ: لا سبيل إلى إلغاء الإسلام، ولا إيقاف زحفه.

في الحاضر: هناك أقوام ادعوا الخبرة في شؤون الجماعات الإسلامية والإرهابية خلطوا - لا ندري عمدا أم جهلا - بين إمكان انحسار الإرهاب وانحسار الإسلام ذاته.

وهذه رؤى خاطئة بنى عليها بعض الحكام موقفه من الإسلام كله، فهناك إجماع منعقد على أن الإرهاب يتوجب زواله من الكوكب، على حين أن الإسلام أمر مختلف إذ هو دين يعتنقه نحو مليار ونصف المليار إنسان. وأن الدلائل تشير إلى تقدمه وفوائد بقائه لأسباب كثيرة من بينها: ردع الإرهاب ذاته بأقوى الأدلة الدينية الحاسمة.

أما المستقبل، فإن مؤشرات علمية عديدة تشير إلى أن الإسلام هو (قوة الغد) بحول الله وقوته.. ومن العجيب أن أناسا غير مسلمين مقتنعون بذلك؛ ففي عام 1936: ألف مستشرق ألماني كتابا عنوانه (الإسلام قوة الغد).. ومن عناصر القوة التي ذكرها: كثرة الموارد.. وكثرة الأيدي العاملة.. والقوة العقدية الروحية الدافعة إلى العمل.

بيد أن العمى عن رؤية الأضلاع الثلاثة للزمن قد ورط حكاما عربا في أن يبنوا مواقفهم على مسلمة أن الإسلام إلى (انحسار)!.. وبذلك تركوا المناخ والساحة للإسلاميين الذين خلفوهم في الحكم والسلطة.

2 ـ والدرس الثاني الكبير الذي ينبغي أن يستوعب بجدية وانتباه وذكاء وفطنة وبعد نظر هو: أن الرصيد الأعظم للحكام هو (الشعوب).

لقد تبين من الحراك الشعبي في بلدان عربية عديدة. سقط حكامها سقوطا مدويا: أن أولئك الحكام كانوا مقطوعي الصلة بشعوبهم.. نعم. إن أجهزة أمنية عديدة صورت لهم الأوضاع في صور زاهية مطمئنة (وهو ذات الغش الذي مورس مع شاه إيران في أيامه الأخيرة). لكن الوقائع على الأرض كانت أقوى من غش التقارير الكذوب اللعوب التي خدعت الحكام وخدرتهم حتى مادت تحتهم الأرض بغتة وهم لا يشعرون!

على أي شيء يدل (التبدل الجذري) في طبائع البرلمانات في تلك الدول المعنية؟.. يدل على أن معظم الناس قد صوتوا لمعارضي أولئك الحكام.. والترجمة الحسابية لهذه الحالة هي: أن معظم الشعب قد صوت ضد من كان يحكمها على مدى ثلاثة عقود.

والمعنى السياسي الأعمق: أن أولئك الحكام كانوا يحكمون بـ(غير رصيد شعبي) أو يحكمون بـ(رصيد وهمي) لا غطاء حقيقيا له!! أو - بالتعبير الديني - كانوا «يحكمون قوما هم لهم كارهون».

وهذه هي الخيبة السياسية الكاملة، فالخيبة السياسية الحقيقية: أن يحكم الرئيس شعبا ممتلئا كراهية له وهو في الحكم، وأن يحكم شعبا لا يقيم له احتراما ولا اعتبارا بعد أن يرحل عن الحكم.

فالحكم - عندئذ - يكون بمثابة تعاسة نفسية وسياسية، ليس فيها ذرة من لذة التمتع بالحكم، ولا الطرب بأبهته كما يتوهم الحكام، أو يتوهم من حوله.

يا حسرة على الحكام!

لماذا يفعلون بأنفسهم هذه الأفاعيل؟

ألم يكن من الممكن: أن تترسخ شعبيتهم في أمتهم أو وطنهم؟

بلى. كان يمكن ذلك: بيد أن للشعبية الصادقة شروطها الموضوعية وهي:

أ ـ أن يقدر الحاكم شعبه حق قدره، وأدنى.

درجات التقدير والاحترام: أن لا يستخف بعقله ووعيه، على نحو ما جاء في القرآن الكريم عن فرعون: «فاستخف قومه فأطاعوه».

ب ـ أن يوقن الحاكم بأن رصيده الأعظم - بعد عون الله تعالى - هو (الشعب). ولأمر ما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين».. والمؤمنون هم مجموع الشعب العربي المسلم الذي التف حول نبيه ونصره.

ج ـ أن ينحاز الحاكم إلى الإسلام. فليس معقولا - ولا لائقا - أن يقول حاكم ما - بلسان حاله - (أنا لا أحب ما تحبون من شرائع الإسلام وشعائره فلذلك فأيدوني)!

د ـ حفظ كرامة الناس وصونها من الخدش المعنوي أو المادي، فإن خدش كرامة الناس سبب من أسباب كراهيتهم لخادشها.

هـ ـ التفنن الصدوق والماهر والدائم في تحسين معايش الناس وخدماتهم من خلال عدالة عامة ناجزة.. نعم.. ناجزة، إذ الكل يعد بالعدالة، على حين أن (إنجاز العدالة) - دون إبطاء - هو المطلوب، وهو مقياس المصداقية لدى الناس.