اللحية.. والمزين

TT

انتخاب المصريين لأغلبية لم تبدأ الثورة، وتمتع بعضها بدعم جهاز أمن حسني مبارك (بعد فتاوى عدم الخروج على الحاكم)، وتيار يريد تغيير طبيعة المجتمع إلى ما لم تطالب به ثورة 25 يناير (كانون الثاني) التي فتحت أمامه باب البرلمان، جاء مفاجأة أثارت القلق مما قد يحل بالبلاد، والاقتصاد والسياحة واتفاقيات السلام.

قرأت لمعلق مصري أن انحطاط التعليم، والمستوى الفكري والمهني لصناع الرأي العام، أدى إلى تغليب العواطف على فطرة استخدام العقل الذي ضمن سيادة الإنسان على كل الكائنات.

فالمواطن الأمي البسيط يذهب بالفطرة إلى الترزي لتفصيل ملابسه، والمزين لحلاقة ذقنه، وليس العكس؛ إلا أن تصويت حملة الشهادات الجامعية وضع من هم مؤهلون للتوجيه الروحي ودور العبادة، في مواقع احتراف السياسة وإدارة الاقتصاد والصناعة. والظاهرة تحتاج دراسة لسيكولوجية السلوك الجماعي.

عالم السيكولوجيا دانيال كانيمان في كتابه «Thinking Fast and Slow» يحلل تجربة أجريت على 2000 شخص للإجابة عن سؤال فيه معلومتان:

شخص اسمه «ريتشارد» متزوج، ليس لديه أطفال، ويتمتع بكفاءة عالية، ومحبوب من زملاء العمل. المعلومة الثانية أن ريتشارد ضمن 100، ينقسمون إلى 30 محاميا و70 مهندسا. السؤال «ما هي نسبة احتمال أن يكون ريتشارد محاميا؟».

الغالبية العظمى أجابت (خطأ) 50 في المائة. تحليل البروفسور كانيمان أشار إلى أن الناس تجاهلوا حقائق الأرقام (لأن النسبة البديهية هي 30 في المائة)، وركزوا على الصفات التي في مخيلتهم عن المحامي الناجح.

التجربة جاءت ضمن سلسلة لتفسير غرائب عملية الاختيار (كالانتخابات مثلا)، فتحصل أقلية دون الثلث على نصف الأصوات أو أكثر. أي أن عوامل وظواهر لا علاقة لها بالحقائق الأصلية تتدخل لتشكل صورة في مخيلة الناس تدفعهم لاختيار من هم في الواقع أقلية ليصبحوا أغلبية بما يناقض الأرقام وربما يضر بمصالحهم كناخبين.

وإذا كانت التجربة في بريطانيا، أعرق ديمقراطية في العالم، بينت تشويش مناظرات تلفزيونية على خيار الناخب، فجاء البرلمان معلقا عام 2010؛ فما بالك بقدرة ناخب بلدان الثورات الحديثة على تطوير «فلتر» ذهني يقلل من احتمال تدخل عوامل أخرى غير الحقائق والأرقام قد تشوش على اختياره أو ترسم في مخيلته صورة مثالية عن المرشح، خاصة مع غياب أي خبرة في العمل الديمقراطي والانتخابات الحرة منذ 1952؟

كما أن ارتفاع معدلات الأمية يسبب احتكار صورة رجل الدين في ذهن العامة لرمز المثل العليا الأخلاقية. فالغالبية يخلطون بين ما هو أخلاقي/ ديني، وما هو قانوني. فالخيانة الزوجية أو الكذب في التليفون مثلا أمور غير أخلاقية لكنها لا تخالف القانون.

لأول مرة في 188 عاما ينبه رئيس جلسة افتتاحية في البرلمان المصري النواب إلى التزامهم بنص التعهد الذي يقتصر على جملة واحدة حيادية تؤكد الولاء للأمة المصرية ودستورها والتعهد بخدمة الشعب في إطار قوانين البلاد.

في عام 1824، طور مؤسس الدولة المصرية الحديثة، محمد علي باشا، مجلس الأعيان الذي تأسس قبلها بـ10 سنوات، من مجلس نصيحة ومشورة إلى ممثلين للشعب حسب المناطق والمهن، ليتحول تدريجيا في ثلاثة عقود إلى برلمان منتخب بشكل كامل.

النضج البرلماني الديمقراطي بلغ ذروته في منتصف عهد نهضة مصر (1905 - 1952) عندما أتت ثورة 1919 بعد ثلاث سنوات بثمارها، فعاد زعيم الأمة سعد باشا زغلول من المنفى ليقود الوفد إلى انتصار انتخابي ساحق، ليكمل في عهد الملك فؤاد الأول مسيرة محمد علي، وتستقل المملكة المصرية تماما عن الخلافة العثمانية. ورسخت دعامات الديمقراطية عام 1923 بأعظم دستور في تاريخ البلاد، لا يحلم أكثر المتفائلين اليوم بدستور يحقق نصف إنجازاته في المساواة والحرية والعدل وحكم القانون ووضع الأمة فوق كل السلطات والمناصب والمعتقدات.

بدأت ولادة نهضة مصر، في مطلع القرن الـ20، من رحم مشروع محمد علي النهضوي العملاق، حتى أصابتها حادثة 1952 بالسكتة القلبية. وبدأ عصر التراجع والانحطاط الثقافي والفكري والتعليمي، حيث يشبه مستواه اليوم مثيله عشية وصول الحملة الفرنسية. طبعا سيتسرع البعض، حسب تجربة البروفسور كانيمان، بدلا من دراسة حقائق الأرقام، بمناقضة الحقيقة التاريخية، مرددين حكاية ازدهار الفن والثقافة والمسرح والإبداع في الستينات في عهد ديكتاتورية الحزب الواحد بزعامة الكولونيل جمال عبد الناصر، باعتباره صاحب هذه النهضة.

وفضلا عن أن التاريخ لم يعرف أي نهضة إبداعية في ظلام الديكتاتوريات الفاشية، فالمطلوب مراجعة الأرقام والإحصائيات.

المبدعون في عهد الكولونيل ناصر (نجيب محفوظ، لويس عوض، أم كلثوم، رياض السنباطي، الشيخ زكريا أحمد، يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، إدوار الخراط، ميخائيل رومان، نعمان عاشور، ألفريد فرج، على سبيل المثال لا الحصر) كان متوسط أعمارهم بين 40 و55. أي أنهم جميعا بلا استثناء تلقوا التعليم في مدارس وزارة المعارف العمومية قبل 1952، وقبل كارثة تولي الصاغ كمال الدين حسين وزارة المعارف عام 1958. وتحولت المدارس التي كافح جيل صنع نهضة مصر منذ رفاعة الطهطاوي حتى الدكتور طه حسين لتأسيسها كمنارات لعقول التلاميذ من الجنسين، إلى أقفاص تفريخ تتبع وزارة التربية والتعليم («التلهية والتدجين» كما سماها المعلمون والمعلمات الأفاضل الذين هجروا مصر إلى البلدان العربية وأفريقيا والغرب، إذ لم تتحمل ضمائرهم، كمسؤولين عن تشكيل عقول الصغار مناقضة مناهج 23 يوليو للتاريخ المصري ولأسس المعرفة الإنسانية).

وبالإحصائيات نفسها تجد أن المسؤولين عن حالة الجهل الجماعي وعن انحطاط الإنتاج الفكري والفني والصحافة والتعليم، وعن تفريخ جيل من النصابين الذين سرقوا ثروات الأمة، متوسط أعمارهم بين 45 و55 عاما، أي أنهم من مواليد العهد الناصري وتلاميذ وزارة «التلهية والتدجين».

فانحطاط التعليم في رأينا مدعاة للقلق أكثر خطورة من عدم خبرة الأغلبية المنتخبة بالسياسة ورفضها للديمقراطية، واحتمال زجها بمصر في مغامرات اقتصادية أو سياسية. البعض يقول إن واقعية الحكم وتلبية حاجات المواطن ستجعل «الإخوان» والسلفيين أكثر مرونة وواقعية؛ ويناقضهم من درسوا أدبيات هذه الجماعات (التي لا تؤمن بالديمقراطية وقوانينها الوضعية أصلا) واستراتيجية المراحل، من الاستضعاف، للتقية، لمجاراة الحاكم، للعنف الثوري، ويخشون أن تكون الديمقراطية مرحلية كوسيلة أو «قبقاب دخول الحمام».

دراسة إحصائية عن سجل جماعات مماثلة الآيديولوجية حكمت بلدانا أخرى، بما حققت أو فشلت فيه في الاقتصاد وتحسين مستوى الخدمات، والأهم حقوق الإنسان كحرية المرأة وحق الفرد في الاختيار، ورفع مستوى التعليم والثقافة، ستكون مؤشرا أكثر دقة عن التفاؤل أو التشاؤم.

وهي مهمة صحافة ذات مهنية عالية، وتدريب وخبرة ديمقراطية، ربما قد تكون موجودة في الخفاء ولم نلاحظها بعد، وإن كنت من الواقعيين غير المتفائلين بوجودها.