2011: جردة حساب الثورات والتطوير

TT

كأخطبوط أسطوري أو ككائن هوليوودي فائق القدرات ومتناقض الأفكار مرت سنة 2011 على العالم العربي، سقطت أنظمة واهتزت محاور سياسية وتفرق المحللون والمراقبون أيدي سبأ. كان الشتات والفوضى لتفكير البعض حاكما وكان الوعي لقلة عاصما.

قيلت أحاديث وكتبت آراء وتم تداول مقولات في بداية العام، كانت تعبر عن توجس عميق وحذر واع مما يجري (حينذاك) في لحظة مضطربة من التاريخ، قوبلت تلك الأحاديث والآراء بالهجوم والتشكيك والتخوين تحت شعارات العزة والكرامة، أو الحرية والشرف، أو على الأقل بالسخرية واللامبالاة.

إن الآراء السياسية المعارضة للثورات والمستريبة منها ومن شعاراتها، أو التي اتخذت موقفا يعبر عن محاولة عقلانية هادئة لقراءتها بعيدا عن الصخب، تمت محاكمة أصحابها أخلاقيا، فكان من ينتقد الثورات عميلا، ومن يحذر من خطر الإسلام السياسي وأنه سيحصد غلة الثورات خائنا يستخدم «فزاعة» الأنظمة السابقة، وكان من يعبر عن خشية حقيقية من تضعضعات اقتصادية في دول الاحتجاجات يعتبر مثبطا، ومن يطرح مفهوم الديمقراطية كمفهوم شامل ليست صناديق الاقتراع إلا آخر حلقة فيه مشككا في الديمقراطية كنتاج إنساني راق.

إن حديث اليوم ووقائعه، وأحداثه وحقائقه، تشير بشكل كبير إلى أن كثيرا من تلك المخاوف التي التمست طريقها من خلال سجف الغيب وضباب المشهد كانت مصيبة في غالب ما نحت إليه، وصائبة في خطها العام.

بجردة سريعة لحساب عام يمكن اعتباره عقودا بلغة التاريخ وروزنامة الذاكرة، فإننا نجد اليوم أن الشعارات السابقة بقيت مرفوعة ولكنها محل نزاع واختلاف وشقاق كبير بين رافعيها، وانتقل كثير - من المشككين سابقا في ناقدي الثورات - لانتقاد الثورات والثوار لأنهم استطاعوا اليوم رؤية ما استعصت عليهم رؤيته في البداية، وصار الذين اتهموا غيرهم باستخدام «فزاعة» الإسلام السياسي يرونه واقعا ملموسا في الحياة السياسية إن عبر اقتحام الميادين الثورية، كما جرى في جمعة الشريعة وقبلها جمعة القرضاوي، وإن في البرلمان الجديد في مصر، وأصبح الغائب الأكبر هو «شباب الثورة» الذين كان يعتقد البعض في جموح عاطفي لا عقلاني أنهم المخلص الكبير الذي سيقضي على كل عقد التخلف العربية.

ومن حديث اليوم - كذلك - أن اقتصادات دول الاحتجاجات العربية تمر بمراحل خطرة وتعاني معاناة مريرة لاستعادة كثير مما فقدته، أو للاستعاضة عنه بموارد اقتصادية أخرى، إلا أن كل الحلول المطروحة تبدو بعيدة المنال وغير مضمونة الثمار.

لقد تمت مناقشة أسئلة كبرى حول ما جرى في سنة 2011، من مثل؛ هل هذه الاحتجاجات ترقى لتكون ثورات بالمعنى الحديث للمصطلح؟ وكانت أعدل الإجابات أنها ليست كذلك، وأن مشوارنا لم يزل طويلا، وهل الجماهير هي الشعب أم أنها قلة نشطة منه؟ وهل لها الحق في التعبير عنه أم لا؟

وما اتضح اليوم هو أن لدينا من عناصر التخلف ومعطياته ومفاهيمه أكثر مما لدينا من عناصر التنوير والتحضر، وأن الطائفية والقبلية والآيديولوجيات الدينية أقوى من مفاهيم الحرية والمدنية، أو التسامح والعدالة والمساواة، وأن هذه المفاهيم الحديثة قابلة للاختطاف بكل سهولة ويسر في ثقافتنا العربية ومجتمعاتنا، فالأحزاب الإسلامية تتسمى بـ«الحرية والعدالة» و«التنمية» ونحوها من المفردات التنويرية بعد اختطافها وتحويرها لتتواءم مع خطابات آيديولوجية مناقضة لها في الأساس.

في تونس اقتصاد واهن وبطالة متفشية ومطالب متناقضة، وفي مصر مثلها بزيادة أن الشعب والجيش لم يعودا يدا واحدة، كما كان الشعار المرفوع قبل عام، وفي ليبيا بوادر احتراب داخلي، وفي الجميع لم يعد الإسلاميون فزاعة، بل واقع بلغة الصناديق أو بلهجة السلاح.

لقد قيل الكثير في هذه السياقات، ومما لم يُقَل إن الاحتجاجات الكبرى أو الثورات غالبا ما تكون عاجزة من دون وعي ثم بوعي عن تقديم قراءات صادقة لطبيعة وتاريخ الأنظمة المثار عليها، فتلاطم مشاعر الانتقام والتشفي مع حماسات النصر والكرامة تعشي عيون النخب الجديدة فضلا عن الجماهير عن رؤية المشهد السابق كما كان لا كما يراد له أن يكون، ذلك أن شيطنة السابق في الخطاب السياسي والإعلامي وحراك المجتمع بشكل عام تمنح غطاء مريحا للفشل في البناء لدى النخب السياسية الجديدة.

في التاريخ العربي الحديث جاءت انقلابات العسكر باعتبارها ثورات، وأجرت عمليات تشويه تاريخية للأنظمة التي انقلبت عليها، وبعد عقود استطاع الكثير من المؤرخين والنخب البعيدة عن صخب لحظات الانقلاب والثورة إعادة رسم المشهد من جديد بسلبياته وإيجابياته لطبيعة الأنظمة التي انقلب عليها العسكر وشوهوها بشكل متعمد.

ومما لم يقل (أيضا) إن كثيرا من التطويرات الحقيقية والإصلاحات الكبرى كانت رائد الكثير من التجارب الناجحة لتطوير أنظمة الحكم في القرون الأخيرة من عمر العالم، فأميركا كانت تحارب الاستعمار ولم تكن ثورة على نظام حكم، وبريطانيا عجوز أوروبا الحكيمة تجاوزت ثورات أوروبا الحديثة لأنها كانت قد استبقتها بإصلاحات وتطويرات صارت تعرف لاحقا بالتطوير الفيكتوري.

غير هذا، ما جرى في الهند وما جرى في جنوب أفريقيا، فحين نرصد تجربة الهند التاريخية مع غاندي فإنها لم تَثُر بالمعنى الحديث للثورة، لقد حرصت على المقاومة والإصلاح حتى خروج المحتل الإنجليزي وقيادتها للنظام السياسي ومتابعتها لتطويره. وربما كان أوضح في هذا السياق تجربة جنوب أفريقيا مع رمزها الكبير، نيلسون مانديلا، فمانديلا قاد إصلاحا طويلا وتطويرا متدرجا امتد لعقود حتى استطاع حين تسلم السلطة تثبيت دعائم أنظمة الدولة حتى لا تنهار، والشروع في عملية تطوير شاملة لبلاده.

في بريطانيا وأميركا، كما في الهند وجنوب أفريقيا، أدى الإصلاح والتطوير - دون الثورة - لترسيخ استقرار الدولة سياسيا مع تطوير مستمر وشامل جنّب تلك البلدان مآسي الثورات وسلبياتها، ومنحها كل آمال الثورات وأحلامها ولكن بشكل أفضل وأقل تكلفة وأبعد أثرا واستدامة. ولتوضيح أكبر، يمكن مقارنة هذه التجارب بالثورات الشيوعية التي تفشت في النصف الثاني من القرن العشرين، وأدت في غالبيتها العظمى لمآس وفظائع وفشل سياسي ذريع في العالم كله لا في المنطقة العربية وحدها. وفي العالم العربي اليوم رأينا ما جرى لبلدان الاحتجاجات العربية، ورأينا بالمقابل الدول التي اعتمدت التطوير، كما في المغرب والأردن والبحرين وباقي دول الخليج، وإن بدرجات متفاوتة.

لقد اتخذ كثير من الفلاسفة مواقف مستريبة من الثورات، قبل وأثناء وبعد قيامها، وفعل الأمر ذاته كبار السياسيين، وحين قدم بعض الفلاسفة والمفكرين رؤى متميزة لمثالب الثورات وعدم تحبيذهم لها ولانحيازها للمتطرفين من كل شكل ولون، عبر كثير من السياسيين عن امتعاض كبير من غوغائية الجماهير، كما فعل بعض الآباء المؤسسين في أميركا، «الثورة الأميركية: جوردن س. وود»، ولست أدري لماذا يحسب كثير من المثقفين العرب أن ما جرى ويجري في العالم العربي سيكون مختلفا واستثنائيا وخارقا؟