أصحاب القلوب البسيطة

TT

على مدار ثلاثة أيام من هذا الأسبوع سوف أرجع بكم للوراء أكثر من (150) سنة، بعيدا عن السياسة ومنغصاتها، ملقيا الضوء على حياة قبيلة عربية بكل ما فيها من مفارقات.

(ماري تريزا سمر) امرأة مسيحية عراقية من (تكليف)، وأطلق عليها في الغرب اسم (الأميرة البابلية) بعد أن تحولت مذكراتها إلى كتاب، خرجت من بغداد شبه مطاردة من الحكم العثماني في ذلك الوقت من الربع الأول من القرن التاسع عشر، وبعثت إلى (الدريعي بن شعلان) زعيم قبيلة الرولة من عنزة، تطلب حمايته وتستجير به لتصل في رحلتها إلى القدس عبر دمشق، فتجاوب معها الدريعي وأرسل لها ابنه وابنته لإحضارها، وتقول: ما إن رأيتهما حتى أوشكت على البكاء وغمرني شعور عميق بالامتنان لهذه الشهامة بالقياس إلى ما عانيته من قهر من ذاك الرجل الأوروبي الذي لا بد أنه ينظر إلى رئيس هذه القبيلة على أنه بربري وخارج عن القانون.

كان قبول البدو لي شعاعا نافذا من الفردوس بعد معاناتي وأحزاني التي سببها رجل البعثة التبشيرية.

وتمضي قائلة: كان أول مشهد استرعى النظر عند اقترابي من المضارب هو امتداد الخيم على مد البصر، وأعداد لا تحصى من قطعان المواشي والأغنام والجمال التي كانت ترعى في تلك البراري، لا جبال ولا أشجار تكسر هذا الامتداد، أرض خلاء ممتدة واسعة لا حدود لها، كنا في أيار (مايو) وتطغى الخضرة الطرية لفصل الربيع، وتينع من بينها زهور ملونة، والغزلان ترتع في كل مكان، ونهر الفرات بأمواجه الهادئة، ويبدو المنظر كأنه حدقات العيون المرحة للشباب في أيام الصبا، ويبدو المكان كأنه موقع وموضع للبراءة والسلام، وقلت لنفسي هل هناك أنجح من هذا المكان لعلاج النفس المنكسرة؟

وعندما وصلنا كان الشيخ في (بيت الشعر) الكبير المكون من ثلاثة أقسام: الأول لزوجة الشيخ ومرافقاتها، والخلفية للخدم والطبخ وخزن المستلزمات الضرورية، والأمامية للشيخ لاستقبال زواره والأغراب الذين يرومون الزيارة أو الالتجاء وأيضا غرفة الاستقبال.

أمضيت ستة أشهر من ضيافتهم وعندما حان الرحيل كتبت تقول: الوداع يا أصحاب القلوب البسيطة! يا أولاد الصحراء! أودعكم وأترك خلفي فضائل عميمة وكثيرة، ولن أجد مثلها مستقبلا في أماكن أناس متحضرين، في مجال الضيافة والخير من يساويكم من البشر؟ في مجال واجبات الصداقة من يستطيع أن يتجاوزكم؟ صحيح أنكم تبطشون بأعدائكم أحيانا، ولكن يقال إنكم خُلقتم لهذا السبب.

إن الإحساس بالحرية والوعي بأنني قد تحررت من عبودية المدينة وأسوارها التي اقترنت بتجربتي القاسية مع المبشر الأجنبي والقهر والقمع الذي عانيته منه، إنه إحساس شيء لا يقدر بثمن.

وفي يوم الاثنين المقبل - أي (بعد بكرة) - سوف نستعرض مع هذه المسيحية عرسا بدويا (دراماتيكيا)، من الصعب أن يتكرر في هذه الأيام.

[email protected]