25 يناير.. عام من الفزع والفرحة والأمل

TT

بمناسبة 25 يناير أعطت الحكومة المصرية الشعب المصري كله إجازة لكي يتمكن من الاحتفال بمرور عام على ثورته، غير أن أحدا لم يشعر بأنه مقدم على فرحة، ظلت هناك في القلوب سحب من الخوف مما يمكن أن يحدث لهم في هذا اليوم من أخطار. في الصباح قبل أن أنزل إلى الشارع، لم يكن هناك صوت يأتيني يحمل جلبة الشارع وكأن سكان شارعنا قد هجروه. ونزلت.. كان من الغريب أن أجد تاكسي ما زال سائقه يتمتع بروح المرح، أقلني إلى المقهى الذي تعودت أن أجلس فيه صباحا. صديق يدعوني إلى قريته السياحية على الطريق الصحراوي. لم يحدث في حياتي أن رأيت الطريق الصحراوي خاليا من السيارات إلى هذا الحد، من الواضح أن الناس قد فضلت البقاء في بيوتها خوفا من أخطار لا يعرفها أحد. غير أني كنت على ثقة أن شيئا خطرا أو سخيفا لن يحدث هذا اليوم. لعل ما دفعني إلى هذا التفكير هو أنني على يقين أن الجميع قد تحسبوا لهذا الخطر المحتمل، وبكلمة «الجميع» لا أقصد من بينهم القوات المسلحة أو الشرطة، هناك من الجماعات السياسية من يريد للفوضى أن تزدهر وتستمر، غير أن قيادات الجماعات القوية وعلى رأسها جماعة الإخوان وحزبها، لن تسمح لأي مخلوق بأن يفسد عليها فرحة وصولها إلى البرلمان واحتلال غالبية مقاعده. إنها قاعدة شهيرة يعرفها كل البشر، وهي: كن مستعدا، كن قويا، عندها لن تضطر إلى دخول معركة، لأنها لن تحدث أصلا، وهو ما حدث فعلا. وذلك بعد أن قامت «قوات» جماعة الإخوان بالسيطرة على الموقف وحماية الميدان. وهو بالضبط ما حصل قبلها بيومين عندما وقفت نفس القوات حول مبنى البرلمان مسلحة بالزهور والبدل الأنيقة لحمايته وحماية أعضائه من تهديدات صدرت عن جماعات أخرى بمنعهم من دخول البرلمان. من الممكن اعتبار ذلك كله تطبيقا لقاعدة شهيرة هي أنه عند عجز الأفكار، بغض النظر عن صحتها، عن دفع الآخرين إلى الالتزام بالمنطق تكون القوة البدنية هي الأداة الوحيدة المقنعة والملزمة أيضا. هكذا تكون جماعة الإخوان مارست سلطتين في وقت واحد، التشريعية داخل البرلمان والتنفيذية خارجه بعد أن غابت الشرطة عن الاحتفال، وهي بالطبع الجهة الوحيدة التي يحق لها أن لا تحتفل به.

وبانعقاد جلسة البرلمان الأولى تكون المسيرة في مصر قد بدأت على الطريق الذي لا بد حتما - كما نأمل جميعا - أن ينتهي بالديمقراطية. أعترف بأنه طريق صعب مليء بالحفر والمطبات والزجاج المكسور، بل ومواسير المجاري الضاربة، غير أنه طريقنا الوحيد ولا طريق غيره.

وعلى هذا الطريق لا بأس من الدردشة مع الثوار بكل أطيافهم ومع السادة أعضاء البرلمان الجديد، علينا جميعا أن نتخلص من أخطر عيوب البشر وهو «الإنكار - denial»، أن نرى الحقائق ساطعة سطوع الشمس ونزعم أننا لا نراها، ومن الغريب أن اللغة العربية بعبقريتها اشتقت هذه الكلمة من أكثر الكلمات قبحا وهي المنكر.

المعركة الوحيدة الآن التي يجب أن ينتصر فيها الثوار هي معركتهم مع أنفسهم، أن ينتصروا على كل طاقة الغضب التي تعتمل بداخلهم والتي تحجب عن أعينهم رؤية الطريق. من الخطأ والخطير معا عدم الاعتراف بمجلس الشعب كجهة وحيدة مسؤولة عن التشريع، لا أحد على أرض وادي النيل أو في أرض أخرى من حقه أن يفرض معركة بين ميدان التحرير والبرلمان. ليس من حق مخلوق التشكيك في شرعية هذا المجلس الذي اختاره المصريون في انتخابات حرة ونزيهة. والكلام عن عدد الناخبين الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع والقول بأنهم لا يمثلون الشعب كله، مردود عليه بأن الديمقراطية لا تعرف الكمال، غير أنها تظل بكل نواقصها الطريقة الوحيدة للوصول إلى أفضل نظم الحكم، وفي نهاية الأمر لا توجد على الأرض طريقة يمكن بها دفع الناس جميعا إلى الإدلاء بأصواتهم.

الثورة تحدث عند تحدي كل القيود وتكسيرها واحدا بعد الآخر، غير أن الحرية على العكس من ذلك، من المستحيل الوصول إليها إلا بمراعاة القيود وربما نفس القيود. الحرية قيمة من قيم الحضارة، والحضارة للأسف تفرض على الإنسان قيودا تحرمه من مبدأ اللذة الناشئ عن ميله الغريزي إلى العدوان. تستطيع بإطلاق طاقة الغضب بداخلك تحقيق الثورة، غير أنك لن تحصل على الحرية إلا بكبت حريتك جزئيا لتحقيق هدف تشترك معك فيه الجماعة. الحياة - مثل الدراما - قائمة على التناقض، هكذا يمكن أن نفهم بسهولة دور القيود والكوابح في صنع الحرية. حرية، كرامة، عدالة، عيش.. أضف إلى ذلك ألف قيمة نبيلة أخرى، الواقع أنها جميعا تمثل قيمة واحدة هي الحرية، والعلاقة بين الحرية وبقية هذه القيم هي علاقة اشتمال أو احتواء.

أن تنطلق بأقصى سرعة بسيارتك على الطريق السريع يفرض عليك قيودا عليك أن تلتزم بها وأن ينبع هذا الالتزام من داخلك وليس لأن أحدا فرض عليك الالتزام بحارة معينة، أو أرغمك على اتباع بقية تعليمات المرور أو طلب منك أن تكون فراملك سليمة، وقبل كل ذلك عليك أن تكون يقظا، كل هذه القيود ستراعيها أنت حرصا على سلامتك وسلامة الآخرين، هي قيود صنعها البشر لتظل أنت حيا قادرا على ممارسة الحرية.

في شعوب حكمها الاستبداد مددا طويلة، تكتسب الحرية معاني خاطئة وربما بلهاء، وعادة يحصرها المثقفون في حرية الإبداع الفني فقط بعيدا عن الإنجاز العام، ولعل أهم تفعيل لها هو حرية الشتيمة وإهانة الآخر. الواقع أن الحرية - كما أتصورها - هي الانشغال بصنع الخطوات التي يخطوها البشر من أجل الإبداع في كل مجالات الحياة من زراعة وصناعة وتجارة لهدف نبيل وجميل هو تأكيد الذات. وعليك بالطبع في كل هذه الميادين أن تواجه وأن تتعامل بفهم ونعومة مع مئات التعليمات التي تفرض قيودا عليك لن يكتمل عملك بغيرها، إذا لم تحترم قواعد التصدير بالنسبة للسلع الزراعية وأرسلت إلى موانئ العالم بطاطس سيئة سوف ترد إليك على الفور.

ما نخوضه حقا في مصر هو معركة الحضارة، قد نكون بفعل التوتر الحاد والغضب والرغبة الحارقة في تحقيق العدل الفوري، قد نكون قد خرجنا عن طريق التحضر أو حدنا عنه قليلا. وهو ما يدفعني إلى تذكير بعض الناس بأن الإنسان الأول بدأ هذا الطريق بعد أن التزم بثلاثة عناصر (اقرأ «قلق الحضارة» لفرويد civilization and discontents): النظام (System)، النظافة، ثم اكتسابه تقديرا خاصا للجمال. هذه هي الحرية كما تفرضها الحضارة، إنها الزهو البشري بما أنتجته وقدمته لنفسك وللآخرين.

أيها السادة، لا داعي لصنع معركة مفتعلة مع القوات المسلحة المصرية، لأنها تعطلنا عن الوصول إلى الحرية، ولا داعي لاستخدام انعدام التهذيب في هذا الصراع الوهمي لأن له آثارا في المستقبل خطرة للغاية. احترموا القيود لكي نصل إلى الحرية، احترموا خريطة الطريق بما تفرضه من خطوات لا بد من الالتزام بها، انتصروا على أنفسكم.