الانفصام في الشخصية

TT

ليس بالاستنتاج الجديد أو العبقري إذا ما قلنا إن الشخصية العربية تعاني انفصاما وتشظيا على مستوى التركيبة القيمية للذات، التي تستند إليها في تمثلاتها ومواقفها وممارستها الاجتماعية اليومية. وهو في الحقيقة انفصام طبيعي بالنظر إلى طبيعة مسار التحديث الذي عرفته البلدان العربية بعد الاستقلال. ذلك أنه مسار تجزيئي أخذت منه أنظمة تلك الدول ما يناسبها من قيم ومن أفكار، وتجاهلت ما يزعج مصلحتها ويتعارض مع خصائص الحكم الشمولي. فالرهان التحديثي في كليته وعمومه كان يرتكز على التعليم والصحة، في حين أن التحديث السياسي والفكري وتكريس قيم حرية الإبداع والتفكير والتعبير وإيفاء الفرد حقوقه قصد تنمية المواطنة فيه، كلها كانت من المحاذير.

ولقد أنتج ذلك الحكم، بآليات القمع والخوف، مجتمعات سلبية في الغالب وغير متحققة الذات، الشيء الذي قد يفسر ظاهرة تراجع الإبداع العربي علميا وثقافيا، لأن البيئة العربية غير صالحة للإبداع والابتكار، من منطلق كونها بيئة غير متحررة ومراقبة من طرف الدولة وأجهزتها وتحكمها منظومة قيم هي في الجوهر ضد الإبداع وضد تنامي استقلالية الذات العربية. فضمن هذا السياق وباعتماد مثل هذا التشخيص الصريح، يمكننا أن نفهم العوائق التي أثرت سلبا على ملكة الفرد وقدراته وأظهرته في صورة الشخص المحدود المنتمي إلى ثقافة وحضارة محدودتين.

وبناء على هذه التفاسير السياسية الثقافية، نفهم لماذا ظل العرب خارج دائرة الإبداع العلمي العالمي وفي غياب بارز عن مجال الابتكارات والاختراعات والجوائز العالمية الكبرى. بل إن حتى العدد القليل من العلماء العرب الذين برهنوا للآخر على قدرة العقل العربي على الإبداع، قد تمكنوا من المرتبة التي وصلوا إليها لأن الغرب احتضن أدمغتهم العلمية وتعهدها بالرعاية اللازمة لمصلحة التقدم العلمي الغربي.

والملاحظ أن المنعرج الذي عرفته بلدان الربيع العربي خلال عام 2011 والمتمثل في اندلاع الثورات والقيام بإصلاحات نوعية في بعض البلدان، لم يحد من ظاهرة الانفصام والتشظي في الشخصية العربية، بقدر ما أظهرها بشكل صارخ وصادم في بعض الأحيان. في هذا الإطار الوصفي والتشخيصي، نضع مجموعة من الظواهر والمطالب والمواقف: من جهة، نجد استماتة من أجل الحرية والديمقراطية، ومن جهة أخرى مثلا استماتة البعض من أجل معارضة الأعمال الفنية والإبداعية الجريئة.

كما تتعالى الأصوات من أجل حقوق الإنسان والمساواة، وفي الممارسة السياسية والمدنية لا نجد ما يعكس حقيقة تلك الدعوات، مما يفيد بأن النخب لم تستطع أن تذهب بعيدا في مناخ مليء بالحواجز والمحاذير والأضواء الحمراء اعتباطا، حيث تقوم في مثل هذه الأجواء بعض النخب بإقصاء غير مباشر للمرأة بشتى الوسائل والتعامل معها ككائن قاصر غير قادر على ممارسة العمل السياسي والنقابي وغيره، وهو ما تكشف عنه مظاهر من الصراع السياسي المسكوت عنه تؤكد إدارة مرحلة ما بعد الثورة بثقافة غير ثورية وغير ديمقراطية. بل إن هناك من يناضل في ظل ثورة الإنسان العربي من أجل الكرامة بفرض قضية التعددية في الزواج تماما كالتعددية الفكرية والسياسية.

إنها لخبطة من المطالب ذات القيم والمرجعيات المتنافرة والمتناقضة.

لخبطة تعكس عمق الانفصام وعمق التردد بين بنية تقليدية وبنية حداثية.

ومن الخطأ الاعتقاد أن مثل هذا الانفصام سهل المداواة والمعالجة. فهو يستلزم إعادة بناء الإنسان العربي، وهي مسؤولية الفرد نفسه ومسؤولية النخب والدولة، حيث لا رهان مضمون على شعوب، أغلب أفرادها يعانون الانفصام والتشظي.