«سوريا جديدة».. بعد قرار الهروب إلى الأمام

TT

«قوى الأمن الداخلي حريصة على المضي في الكفاح والنضال لتطهير التراب السوري من رجس المارقين والخارجين على القانون، لإحقاق الحق، وإعادة الأمن والأمان الذي كانت تعيشه سوريا».

(اللواء محمد الشعار، وزير الداخلية السوري)

ساعات حرجة بلا شك، بالنسبة للمنطقة العربية عموما، ولسوريا بصورة خاصة. وأي حوار مع موسكو عندما يكون في رأس اعتباراتها السياسية الاحتفاظ بمواطئ قدم هنا وهناك.. مسألة لا تخلو من صعوبة.

أصلا، كانت القيادات الروسية في مختلف العهود تقريبا، قليلة الاكتراث بمعاناة الشعوب. ولهذا أصلا انتهى صلف روسيا القيصرية بالثورة البلشفية. وبعد عقود من الزمن، تحول «الرفيق الأحمر» الأول و«قوميساراته» إلى نسخ متجددة عن القياصرة، ولم يدرك آخرهم، ميخائيل غورباتشوف وجود فارق جوهري بين من آمن بالاشتراكية، كفكر وممارسة تستند إلى مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، ومن أجبر على ببغائيات خطابها بفعل انتشار سطوة «الجيش الأحمر». وكانت النتيجة، كما رأينا، سقوط كيان الاتحاد السوفياتي ومعه قياداته العتيقة التي كفرت بإنسانية الشعوب، بينما ظل هناك اشتراكيون واشتراكيات (بشتى الصور والنسب) في كوبا ونيكاراغوا، والكثير من دول الشرق الأقصى وأفريقيا.

روسيا السوفياتية، انتهت مع غورباتشوف محاميا فاشلا عن العدالة الإنسانية وحقوق الشعوب.. وفي النهاية، خذلت نفسها. وفلاديمير بوتين، الذي يرفض اليوم حقن دماء السوريين ويدفعهم دفعا إلى أحضان الراديكالية الدينية، هو ابن حقبة العد التنازلي لانهيار الاتحاد السوفياتي. إنه ربيب مؤسسته الأمنية في سنوات الحكم السوفياتي الأخيرة الممتدة بين ترهّل حكم ليونيد بريجنيف.. وسوء تقدير ميخائيل غورباتشوف وفساد بوريس يلتسين.

ولكن لندع روسيا وشأنها. ففي نهاية المطاف لا أخلاقيات في السياسة. وروسيا اليوم لا تستخف بآلام السوريين حبا في الرئيس بشار الأسد، وإعجابا بنضاليته - بعكس إعلان اتحاد كتابها الجهابذة - بل إنها، كما غدا واضحا، تتواطأ على القتل لاعتبارات تتعلق بتبادل المصالح والابتزاز مع الولايات المتحدة.

فبعد سنة من نجاح المواطن العربي، ابتداء من تونس ومصر في كسر حاجز الخوف من التسلط والديكتاتورية، يظهر أن ثمة أنظمة تسلطية اختارت - أو اختار لها حلفاؤها الإقليميون - اعتماد «أسلوب الهجوم خير وسائل الدفاع». وبدلا من أن تشعر بشيء من وخز الضمير، قررت المضي في «خيار شمشون»؛ عليّ وعلى أعدائي، حتى النهاية.

قد يقول قائل إن الأنظمة التسلطية ليست بالضرورة من نسيج واحد. وهذا صحيح. فهناك مثال أدولف هتلر الباطش باسم العرقية الجرمانية، وبعكسه مثال جوزيف ستالين «الأقلياتي» الجورجي، الذي قاد الاتحاد السوفياتي «الأممي» ذا الأغلبية السلافية. وفي العالم الثالث، تتعدد الأمثلة على مد النظر تحت مختلف المسميات والألقاب.. من «عروبة» صدام حسين و«أممية ملك ملوك أفريقيا»، معمر القذافي، إلى «شعوذة» فرانسوا دوفالييه (بابا دوك) و«إمبراطورية» جان بيديل بوكاسا.. مرورا بنماذج فرديناند ماركوس وسوهارتو ومحمد ضياء الحق.. ذات المذاقات الآسيوية الحرّاقة.

تشكيلة غنية بالشعارات الفضفاضة، وبأنهار الدم الغزيرة أيضا.

اليوم، بعد أكثر من 7 آلاف قتيل ونحو 70 ألف موقوف وسجين، بشرنا وليد المعلم، عميد الدبلوماسية السورية، قبل أيام، بأنه «نزولا عند طلب الجماهير»، قرر نظام الرئيس بشار الأسد إنهاء حالة الاضطراب الحاصلة في سوريا عن طريق «الحل الأمني».

الجديد في هذا الكلام، الذي ما استغربه إطلاقا مستمعوه من السوريين واللبنانيين، وكذلك الفلسطينيون والعراقيون، أنه أولا يعترف بوجود حالة اضطراب أمني خطير، بعدما دأب الإعلام السوري الرسمي قبلا على اعتبار المسألة كلها مجرد اختلاق تآمري من قنوات فضائية بعينها. وثانيا، أن هذا النظام، الذي حكم سوريا منذ خريف 1970 بعضلات أجهزة الأمن والاستخبارات.. ما عاد يستطيع أن يرفض لـ«الجماهير» طلبا.. يا سبحان الله!

ولكن إذا لم يكن هناك مبرر لاستغراب الموقفين الحكوميين الروسي والسوري، فماذا عن الموقف العربي، أو بالأحرى المواقف العربية، بعد 11 شهرا على القمع الدامي الممنهج، على امتداد التراب السوري تقريبا؟

الميوعة والارتباك كانا السمة الغالبة على المشهد العربي، ولا أدل على ذلك من «فياسكو» بعثة المراقبين العرب المرسلة إلى سوريا، بناء على خدعة أخرى من خدع دمشق. وهذا مع أن ثمة من يشير إلى دفاع الدكتور نبيل العربي.. بما معناه أن المجتمع الدولي لو كان حقا يريد التدخل لكان قد تدخل من دون انتظار موقف جامعة الدول العربية. ولكن مع وجاهة هذا المنطق، فإن تأمين الجامعة، مرة تلو الأخرى، «غطاء» كافيا للنظام في دمشق لارتكاب مزيد من أعمال القمع والقتل.. ينطوي على خطرين اثنين:

الخطر الأول، هو طمأنة نظام دمشق إلى أن الجامعة عاجزة حقا عن ردعه، مما سيشجعه أكثر على القمع والقتل.

والخطر الثاني، تأخير الوصول إلى نقطة ما، مع تراكم الخسائر البشرية، تجبر المجتمع الدولي على التحرك.

اليوم، يمكن القول بكثير من الأمانة إن النظام السوري أدخل نفسه في نفق لا منفذ آمنا له. فهو راهنا، تحت ستار التصدي لغول الطائفية والمذهبية والأصولية الدينية، يدفع سوريا دفعا إلى شفير الحرب الأهلية، بعدما نمّى في الشارع السوري - عن تعمد أو عن غباء - أسوأ أشكال الاحتقان الفئوي البغيض.

ثم تحت أكذوبة العروبة، سلم القرار الاستراتيجي في حسم مصير سوريا إلى إيران وإسرائيل. والمرجح، مع الأسف، أن إيران وإسرائيل، وبدرجة أقل، تركيا.. ستلعب الدور الأكبر في رسم شكل «سوريا الغد».

وعلى الرغم من سنوات كثيرة من التشدّق اللفظي بالممانعة، مقابل الفرض على الآخرين دفع ثمنها، ها هو النظام يُسقِط سوريا في شرك اللعبة نفسها التي كان «يبيعها» للغير. «الممانعة» كما يكتشف السوريون الآن، كانت شعارا سهلا ومربحا، وكاذبا أيضا، استُخدِم طويلا على أشلاء الفلسطينيين ثم اللبنانيين ثم العراقيين، قبل أن يأتي زمن كشف حقيقته.

إن سرعة قبول إسرائيل برحيل حسني مبارك، على الرغم من «كامب ديفيد»، وتعطيلها حتى الآن تحت الستار أي حسم ضد النظام السوري بعد 11 شهرا من القتل اليومي.. يعني شيئا واحدا فقط، هو أنها لا تمانع في بقاء هذا النظام، بل تفضّل بقاءه تحت سقف مقبول، وبموجب تصور لمستقبله تظل هي شريكة فيه.

غير أن نظام دمشق يتصرف الآن وفق حسابات قد لا تكون بالضرورة واقعية. ولعل تسارع الأحداث خرج عن قدرة النظام على التحكم بها، بمعنى أنه كان ارتأى أن الحل الأمني وحده كاف لدب الرعب في معارضيه، الذين سيتعبون وينقسمون. ولكن مع السير أبعد في قمع تأقلم معه المعارضون.. وجب التفكير في خيارات أخرى.

والمؤسف في حالة القوى الفاشية الساعية إلى مواصلة الهيمنة، أنها عندما تصل إلى المأزق الكبير، تختار التقسيم. وما يظهر الآن أن النظام - من دون أن يعترف بذلك علانية - صار يفكر جديا باحتمال عجزه مستقبلا عن حكم كامل التراب السوري.. وهنا يبرز «الخيار الاحتياطي» المخبأ لحالات الطوارئ، أي التقسيم الذي أعد له بنيته التحتية منذ فترة غير قصيرة.