المعركة التي خاضها ثوار القاهرة بالوكالة

TT

كلام كثير قيل، ولا يزال، في ذكرى مرور عام كامل على ثورة 25 يناير المصرية، وقد كان السؤال الأهم في هذه الذكرى هو: ماذا تغير في القاهرة بعد مرور 12 شهرا على ما حدث في ذلك اليوم.. وبمعنى آخر: كيف يبدو الحال في مصر، الآن، عند مقارنته بالحال قبل قيام الثورة بيوم واحد؟!

القصة القديمة التي تتحدث عن القط، والجرس، والفئران، في الغابة، يمكن أن تسعفنا كثيرا في هذا السياق، ففي القصة أن الفئران، كانت تقف حائرة، وعاجزة، أمام قط كان يهاجمها كل يوم بلا رحمة، وكانت تُفاجأ به بينها، فلا تجد وقتا، والحال هكذا، لكي تهرب، ولا تعرف أيضا كيف تتصرف.. ونحن نعرف أن تفكيرها قد هداها ذات يوم إلى أن الحل يكمن في جرس يجري تعليقه في رقبة القط، حتى إذا توجه نحوها، في أي وقت، اهتز الجرس، وأحدث صوتا، فتهرب هي، ولا يتمكن أبدا من افتراسها.. ورغم سهولة الحل، ورغم أنه كان حلا عمليا، فإن صعوبته كانت في تنفيذه، وكانت الصعوبة الأكبر في أن تعثر الفئران على واحد بينها يملك الجرأة التي يستطيع بها أن يذهب مغامرا فيغافل القط، وهو نائم ، ويعلق الجرس في رقبته.. وأظن أن القصة في تراثنا ظلت مفتوحة النهايات، لأن العثور على مثل ذلك الفأر الشجاع كان مستحيلا.

شيء من هذا، بالقياس، حدث قبل وأثناء يوم 25 يناير على الأرض، بين البشر هذه المرة، وليس بين حيوانات الغابة.. فقد كان الجميع، قبل الثورة، متفقين على أن إجهاض فكرة توريث الحكم لجمال مبارك، هو الحل الأوحد لكل المشكلات التي تراكمت علينا في السنوات الأخيرة، وهو الحل أيضا لمشكلات أكبر يمكن أن تأتي في المستقبل، ورغم وضوح الحل، ورغم أنه كان محددا، فإن صعوبته ظلت في تنفيذه، وفي تحويله من مجرد فكرة مطروحة، إلى واقع قائم على الأرض.

وبمثل ما كان تعليق الجرس في رقبة القط، كفيلا بنزع أقوى ما يملكه منه، كان أيضا إجهاض توريث الحكم لمبارك الابن، كفيلا بنزع أقوى ما كان يهدد المستقبل بالنسبة للجميع، فيما بعد مبارك الأب.. ولكن.. كان السؤال هو: كيف؟!

كانت المؤسسة العسكرية، هي الطرف الأول في المعادلة، المتضرر من فكرة التوريث، وكان في إمكانها قتل الفكرة في لحظة، ولكن احترامها لمبارك الأب، وقتها، وتوقيره، من جانبها، وتقديره، باعتباره واحدا من أبنائها.. كل ذلك كان يمنعها، وكان في الوقت نفسه يضعها في حرج بالغ، ولم تكن تتصور ما الذي يمكن أن تفعله، لو أن التوريث جرى في حياة الأب؟! فقد كان هناك شبه إجماع، على أن التوريث ممكن في حياة الأب، ولكنه مستحيل في غيابه، وبالتالي فإن الخوف كله، كان من أن يقرر مبارك الأب فجأة، أن يتنحى، ثم يجري توريث الولد بين يديه، تحت مبررات كثيرة كان الإعلام جاهزا لإقناع الغالبية بها.

وكانت جماعة الإخوان، من ناحية أخرى، تعرف أن حظها مع الابن، سوف يكون أسوأ منه، مع الأب، وأن مرحلة التمكين في الحكم التي تتأهب لها منذ عقود من السنين، لن تكون ممكنة في حالة مجيء الابن إلى السلطة. وليس أدل على ذلك، من أن «الجماعة» التي فازت بـ88 مقعدا من إجمالي 508 أعضاء في برلمان 2005 كان حظها صفرا في برلمان 2010.. وكان نصيبها في هذا البرلمان الأخير، يشير إلى حجم موقعها في المستقبل على الخريطة.. ولم تكن هي الأخرى تتخيل ماذا سوف تفعل!

إذن.. كان الجميع في حاجة إلى العثور على شجاع يستطيع تعليق الجرس في رقبة القط، وكان الحياء، من جانب المؤسسة العسكرية، تجاه مبارك الأب يمنعها طول الوقت. فبالنسبة لهم، في هذه المؤسسة العريقة، كان الأب، هو كل شيء، وكان الابن - في المقابل - لا شيء. ولنا، أمام وضع من هذا النوع، أن نتخيل حجم الحرج الذي كانت تلك المؤسسة واقعة فيه!

وعاشت الأطراف كلها في انتظار أن يأتي حل من السماء، وكان العجز من جانبها سيد الموقف تارة، ثم كانت الحيرة هي سيدة الموقف، تارة أخرى، وكان كل تفكير في المستقبل، مع وجود جمال مبارك في الصورة بوضعه وقتها، يصيب أي عقل بالشلل.

وعندما أطل 25 يناير علينا، كان شباب الثورة، هم وحدهم الذين امتلكوا الجرأة على أن يذهبوا ليعلقوا الجرس إياه، في موضعه، وكان رهانا منهم على مجهول، وكانت المغامرة على هذا المستوى، إما أن تنجح بنسبة مائة في المائة أو أن تفشل تماما، ولم يكن هناك خيار آخر في الوسط!

ورغم أن شباب الثورة، حين خرجوا، في ذلك اليوم، كانوا راغبين في تغيير ملامح الصورة تماما، بحيث لا يبقى في إطارها بعدها قط لا جرس ولا يحزنون، فإن الواقع الذي نعيشه، بعد مرور عام كامل على الثورة، يكاد يبين أن الطرفين الأقوى في المعادلة يريدان، إلى الآن، أن يتوقفا بالثورة عند حدود تعليق الجرس، وفقط.. والمعنى، أنه إذا كان هناك مستفيدون من خروج الشباب، وقيامهم بالثورة، فهؤلاء المستفيدون هما طرفان تحديدا: المؤسسة العسكرية، ثم جماعة الإخوان.. وليس هناك طرف آخر استفاد معهما.. فالمؤسسة اكتشفت بعد الثورة.. أن الشباب قدم حلا سحريا، لمعضلة لم تكن تعرف ماذا عليها أن تفعل معها، وهذه المعضلة هي إزاحة مبارك الابن كليا من الصورة.. أما الأب، فلم يكن هناك قلق، ولا خوف منه، لأنه بحكم السن على الأقل، كان إلى رحيل.. وعلى مستوى الجماعة، فإن غياب الابن، قد أتاح لها أن تحقق ما لم تتمكن من تحقيقه منذ تأسست عام 1928!

وربما كان هذا الوضع المعقد، هو سبب التجاذب الشديد، وربما العنيف، الذي يسود الساحة المصرية طول الوقت، أو بين وقت وآخر.. فبالنسبة للطرفين الأكثر استفادة مما جرى، يبدو كل شيء بخلاف إزالة جمال مبارك، مسألة تحتمل التأجيل، على عكس سائر الأطراف التي لا تزال ترى أن إجهاض فكرة التوريث لم يكن الهدف الوحيد، من وراء الثورة، ولكنه كان مجرد هدف بين أهداف!

وربما لهذا السبب، تواءم المجلس العسكري الحاكم، مع الجماعة، في الفكر، وفي العمل، منذ اللحظة التي تخلى فيها الرئيس السابق عن الحكم، وبدا، وكأن التخلي من جانبه ثم من جانب جمال بالتالي، كان هو الغاية، في حين أنه مفترض فيه، أنه مجرد وسيلة لما بعده، ولذلك، فالذين غامروا بتعليق الجرس لم يحصلوا على شيء، بينما حصل الذين لم يعلقوه، على كل شيء.. فيا لها من مفارقة، أن يكتشف الثوار بعد عام كامل، أنهم خاضوا - دون قصد - حربا بالوكالة!