ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها

TT

«ما هو محل ميلاد أي نظام، وما أصل أي نظام؟ هل النظام يهبط من السماء، أم أنه ينبثق من الأرض؟ هل للنظام هوية مقدسة، أم أنه يتأسس بناء على إرادة الشعب؟».. تساءل أفلاطون في الفصل الثامن من كتابه «الجمهورية»، وأجاب عن سؤال مهم للغاية «هل تعتقد أن الدساتير تولد من الشجر أو الصخر؟.. لا، بل من الأشخاص الذين يعيشون في الدول التي يحكمونها»، ويمثل هذا الأمر جوهر النقاش الدائر في مصر هذه الأيام، حيث حصل «الإخوان المسلمون» والسلفيون على 70 في المائة من مقاعد البرلمان. وكانت النتيجة غير متوقعة، حتى للفائزين، حيث يقال إنه من الصعب التكهن بالمستقبل في السياسة، وهو ما دفع أكثر السياسيين إلى العزوف عن التكهن، بل زادوا من غموض عباراتهم.

وكتب آلاء أصفهاني، الروائي الشهير، في مقال نُشر في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2009 «لا يستطيع (الإخوان المسلمون) من حيث العدد والتأثير الفوز بالأغلبية في أي انتخابات حرة نزيهة يقبل الناس على التصويت فيها». لا أريد أن أركز على هذا الموضوع، فعندما كنت في القاهرة، أخبرني صديقي العزيز وليد المعلم بأن دار «الشروق» للنشر التي يملكها تنشر كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب كل عام. وكل صباح كنت أذهب إلى مسجد الحسين للصلاة، وبينما كنت هناك كنت أتحدث كثيرا مع الشباب. لقد أدركت أنه في كل انتخابات، سيحصل «الإخوان المسلمون» على أغلبية الأصوات.

تظل هذه المؤشرات غير كافية للخروج برؤية واضحة عن المستقبل، فمصر الآن في مفترق طرق، حيث يركز الكثير من المحللين الأميركيين والإسرائيليين على الأحداث الجارية في مصر. ويحاول أكثرهم التوصل إلى طريقة لاحتواء نقاط الخلاف بين الأحزاب والشعب المصري. إنهم يحاولون افتعال صراع بين الشعب والجيش، بين الإسلاميين والليبراليين، بل وحتى بين الإخوان المسلمين والسلفيين.

على الجانب الآخر، عندما كنت أقرأ النص الكامل لخطاب محمد سعد الكتاتني، خلال الجلسة الأولى من البرلمان، وكنت أشاهد ميدان التحرير يوم 25 يناير (كانون الثاني)، خطرت ببالي تساؤلات حول هوية النظام، والعلاقة بينه وبين الثورة من جانب، والثورة والدين من جانب آخر. وللأمانة اكتشفت نبرتين مختلفتين في خطاب الكتاتني، وإن كان هذا الاختلاف طفيفا، لكن كان من السهل رصده. الكتاتني متخصص في مجالين، فهو أستاذ علم الأحياء الدقيقة في النبات بجامعة المنيا، وكذلك حصل على شهادة في الدراسات الإسلامية. لا أعتقد أنه يوجد صراع بين الإسلام والعلم، لكنني أعتقد أننا إزاء مواجهة بين الإسلام والديمقراطية، على الأقل بحسب أحد أشكاله. لقد كنت أفكر في كلمتين أساسيتين في خطاب الكتاتني، فقد سألت نفسي عما إذا كان «الإخوان المسلمون» في مصر يرغبون في تكرار أخطائنا في إيران. أريد التمييز بين هذين الصوتين، اللذين يتحدث أحدهما عن الديمقراطية والحرية والعدل والرخاء، بينما يؤكد الآخر على ضرورة الجزاء والانتقام والشر. أرى أن هذه الكلمات تترك مرارة في الحلق ولها وقع غير لطيف ما زلت أشعر به.

لقد كنت أتذكر سنوات التظاهر والثورة في إيران، كان لدى جيلنا آنذاك حلم كبير. لقد كنت في الخامسة والعشرين وتم انتخابي عضوا في البرلمان من شيراز. الآن، وبعد مرور ثلاثين عاما، أود أن أوضح آرائي لأعضاء البرلمان المصري خاصة رئيسه. عندما رأيت أحد النواب البارزين يقرأ في المصحف خلال الجلسة خطر ببالي أن الناس لم ينتخبوا ممثلا لهم في البرلمان من أجل أن يقرأ القرآن الكريم تحت قبته. نعلم جميعا تعريف العدل: إنه أن توضع الأمور في مواضعها.

المؤشر الآخر هو مقال إسماعيل الفخراني، أحد أعضاء البرلمان، الذي نشر في العدد الصادر من صحيفة «الأهرام» بتاريخ 26 يناير. وقد انتقد في ذلك المقال أحد أعضاء البرلمان، وعبر عن آرائه في الموضوع الذي تتم مناقشته في مصر حاليا وهو الشريعة. وذكر «النائب ممدوح إسماعيل.. لقد زايدت باسم الشريعة، ومنحت المتربصين فرصة ذهبية للحديث عن فوضى الإسلاميين، ونحن من ذلك براء.. إن القسم متكامل ولا ينقصه ما تزايدت به في نهايته بما لا يخالف شرع الله، فالقسم أولا بالله وهو الشارع الحنيف سبحانه وتعالى، فكيف تقسم بالله الشارع وتخالف شرعه؟! غير مقبول.. ثم إن الدستور الذي تقسم على احترامه يؤكد بما لا يدع مجالا للشك على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا يؤكد ضمنا أن كل ما يخالف شرع الله - كما تدعي - غير مشروع وغير قانوني ومرفوض، وهذا ما يجب أن تعمل من أجله وتكرسه أنت وزملاؤك في البرلمان، فأنتم السلطة التشريعية، وبمنطق المكسب والخسارة فقد خسرت وزملاؤك وحزبك الكثير ولم تكسب شيئا».

وقال عمرو خالد، رئيس مجلس الأمناء في مؤسسة «رايت ستار» الدولية في مصر «جميعنا نحب ونحترم الدين الإسلامي، لكن الاقتصاد هو أكبر مشكلة تواجهنا. أريد أن أقول لـ«الإخوان المسلمين» والسلفيين إن الدولة بحاجة إلى ما هو أهم من الإسلام، حيث قال رسولنا الكريم سيدنا محمد «من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين ليس بمسلم» (أمالي ابن بشران - حديث رقم: 535)

أمام البرلمان المصري حاليا خياران: الأول هو التحدث عن الشريعة، والثاني هو مناقشة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها مصر هذه الفترة. تعاني مصر من ارتفاع معدل البطالة والركود الاقتصادي، ويشرب الكثير من المصريين مياه صرف صحي. عدد الذين يموتون في حوادث غرق العبّارات وحريق القطارات وانهيار المباني أكثر من عدد ضحايا كل الحروب التي خاضتها مصر. نحن بحاجة إلى التوقف قليلا والتفكير في حديث رائع مناسب للحظة الآنية وهو «كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم».

أعتقد أنه ينبغي على البرلمان والميدان أن يكونا أكثر توافقا. وينبغي أن يتمكن الشعب المصري من تذوق طعم التقدم والرخاء. إن هذا ليس وقت الانتقام والعقاب، بل وقت التسامح وبناء المستقبل. من الأفضل دائما أن نوقد شمعة بدلا من أن نلعن الظلام. بعد 32 سنة من الخبرة في الثورة الإيرانية والحكومة الإسلامية الإيرانية، أعتقد أن الدين وُجد من أجل الناس، ولم يخلق الناس من أجل الدين. لهذا جاء في القرآن «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ.. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية: 21 و22).