شيخ العلم وحكيم الإدارة العلامة محمد الحبيب بن الخوجة «رحمه الله»

TT

إن العلم رحم بين أهله يتحقق بها التواصل بين أهل العلم والتكامل في بناء العلم وتشييد معالمه والمشاركة في إيضاحه للناس وبيان أصوله وقواعده، وهذا التواصل مستمر في حال الحياة ومستصحب في حال الممات من خلال إبراز جهود العلماء وبيان فضلهم ودورهم في النهوض بمسيرة العلم ونشره بين الناس حتى تتلقاه أقلام المتخصصين وإجراءات المنفذين للشرع في وقائع الخلق.

ومن هؤلاء الذين كان لهم قدم صدق وسبق إنجاز العالم الموفق والصديق الوفي الإمام الوالد الشيخ محمد الحبيب بن الشاذلي بن عبد الهادي بن الخوجة (رحمه الله) الذي توفي صباح يوم الثلاثاء 23/2/1433هـ، الموافق 17/1/2012م، وقد نعته مجامع علمية وقنوات رسمية وتبادل العلماء في أروقة المنتديات الفقهية التعازي بفقده، رحمه الله رحمة واسعة.

ومن تمام الوفاء لهذا العالم الجليل والصديق الصدوق أن تسجل كلمات من سيرته وتسطر جمل في مسيرته بقصد الوقوف معها والتأسي بجميل مآثرها والسير على درب الخير فيها.

ولد في ديار تونس الخضراء وترعرع فيها، وتدرج في تحصيله العلم حتى تخرج في كلية الشريعة في جامعة الزيتونة عام 1946م، ثم واصل دراسته العليا فحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب العربية من جامعة السوربون في فرنسا في عام 1964م. وبهذا المزيج في التخصصات تشكلت لدى الشيخ عقلية علمية رصينة منفتحة لها عنايتها بالعلم والمعرفة والثقافة الواسعة، فقد حقق في طلبه ومسيرته العلمية الجمع بين العلوم الأصلية وعلوم الآلة فتعددت مشاركاته العلمية في تلك التخصصات، مما زاده عمقا في الرأي وجزالة في العبارات والسياقات يدركها من جمعته بالشيخ مائدة علمية، أو قبة مجمع أو رواق منتدى يعنى بالاجتهاد الفقهي والنقاش العلمي والحوار المثري.

كما أن الشيخ زاول التعليم والتدريس في جامعة الزيتونة في تونس حتى حصل على الأستاذية في الشريعة والدراسات القرآنية في عام 1976م، ثم تقلد منصب الإفتاء للديار التونسية في عام 1976م حتى 1984م، ثم بعد ذلك تعين أمينا عاما لمجمع الفقه الإسلامي بجدة لمدة 25 عاما، وقد كان له دوره الفاعل في المجمع وأثره الجلي في إدارته ومسيرته يقرأ ذلك من وقف على مخرجات المجمع في تلك الفترة، ولا شك في أن وجوده في المجمع أضاف للشيخ كما من المعطيات العلمية والواقعية وطبيعة الأحداث والمستجدات التي تطرأ على واقع المسلمين.

إن الناظر في سيرته العلمية ومسيرته التحصيلية يلحظ بشكل جلي لا لبس فيه جمعه بين الأصالة والمعاصرة واستيفاءه لآلة العلم القديم والحديث في ملكة فقهية وذائقة أدبية بين أروقة جامعة الزيتونة وقاعات جامعة السوربون تشرب كلام علماء الإسلام كما عايش أطروحات المستشرقين، ظهر ذلك كله في نشاطه العلمي وإنتاجه الفكري وأسلوب تفكيره، مستوعبا الحياة المعاصرة في قضاياها المستجدة.

الشيخ الحبيب: علم من أعلام العصر ذو الفكر المستنير والمنطق السديد، باحث مطلع، شيخ متابع في علوم الشريعة وآداب العربية ونوازل العصر، عالم شرع، وأديب طبع، في فطرة سليمة وذوق رفيع.

إذا تأمل المتأمل في سيرته ألفى العقل الراجح والرأي الصائب والفكر الواسع، في قوة بيان وحسن حجة وبرهان.

وقد كان بينه وبين علم المقاصد والعربية والتاريخ حبال ممدودة، حيث له كبير العناية والرعاية من خلال عدد من الأطروحات المتعلقة بهذه العلوم، حيث ألقى فيها جملة من المحاضرات وسطر عددا من المدونات، منها: فتاوى منشورة بمجلة «الهداية الإسلامية» بتونس وبغيرها من المجلات. كتاب «مواقف الإسلام»، يبحث قضايا مختلفة معاصرة من وجهة النظر الإسلامية. تحقيق «إفادة النصيح في رجال الجامع الصحيح» لابن رشيد. تحقيق «السنن الأبين في السند المعنعن» لابن رشيد. تحقيق كتاب «ملء العيبة» خمسة أجزاء لابن رشيد (تراجم المحدّثين والعلماء بالمشرق والمغرب بين القرنين السابع والثامن الهجريين). تحقيق «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجني. قصائد ومقطعات لحازم القرطاجني. كتاب «يهود المغرب العربي»: محاضرات ألقيت بقسم الدراسات الفلسطينية بمعهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة. كتاب «شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر بن عاشور». كتاب «بين علمي أصول الفقه ومقاصد الشريعة». تحقيق كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية» للإمام الأكبر محمد الطاهر بن عاشور. بحث في الدعوة الإسلامية وأفريقيا قدم للمؤتمر الأول للدعوة الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. «المسلمون بين الشريعة والقانون»، بحث قدم للمؤتمر الأول للفقه الإسلامي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. بحوث مجمعية قدمت لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولاتحاد المجامع، ولأكاديمية المملكة المغربية، ولمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة وجدة، ولمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي.

وكان له حضوره في المحافل العلمية والدولية، فقد كان عضوا فاعلا في عدد من الهيئات، منها: عضو سابق بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر 1971، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ سنة 1972، عضو المجمع العلمي العراقي ببغداد، عضو هيئات الاختيار في لجنة خدمة الإسلام - جائزة الملك فيصل الخيرية بالرياض، عضو بأكاديمية المملكة المغربية سابقا، عضو مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي بالأردن - منذ سنة 1982م، عضو مؤسس لبيت الحكمة بتونس 1983م، عضو اللجنة التحضيرية لمحكمة العدل الإسلامية بمنظمة المؤتمر الإسلامي، عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق، عضو في مركز أخلاقيات الطب والعلوم والبيولوجيا بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، عضو في مجمع الفقه الإسلامي بالهند، رئيس الجمعية العمومية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بطهران، عضو المجلس الأعلى لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية - لندن، مؤسس معلمة القواعد الفقهية التابعة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي.

وطوال الأعوام الخمسة والعشرين التي كان فيها الشيخ أمينا عاما لمجمع الفقه الإسلامي الدولي كان تواصلي معه متقطعا، ولكن كانت تجمعني به مناسبات علمية واجتماعية، فعرفت فيه الديانة والورع مع العلم المتين والرأي الرصين والحزم المتميز في متابعة أعمال المجمع وإدارته الإدارة الحكيمة الحازمة، وتفانيه الظاهر في أن يحقق المجمع أهدافه، وقد كان له تواصله مع العلماء والحكام ورؤساء الدول في سبيل ترسيخ رسالة المجمع وحفظ مكانته.

ثم لما كلفت برئاسة المجمع عايشته عن قرب لمدة سنتين فرأيته مع كبر سنه وتقدمه في العمر لم يفتر نشاطه ولم تقصر همته في الإدارة والمتابعة، وبخاصة أن طبيعة عمل الأمانة في المجمع تقتضي الاتصالات المكثفة والرحلات المتتابعة، ولا سيما حين قرب انعقاد دوراته حينما لا تكون في مقر المجمع فقد كان يدير ذلك ويتابعه بحزم وحكمة وفاعلية منقطعة النظير.

رحم الله الشيخ فقد كان ذا منهجية تجديدية في الفقه منطلقا من الجمع بين الأصالة والمعاصرة، نحسب أنه جاهد وبذل وقاد سفينة المجمع قيادة علمية حكيمة منتجة. فكان علما متميزا وأنموذجا بارزا ترى ذلك في إدارته لشؤون المجمع الفقهي الذي كان أمينا له ومؤتمنا عليه، محافظا على الأصل ومتابعا للجديد، جمع في المجمع بين علماء الفقه وخبراء الطب والاقتصاد وسائر التخصصات التي يحتاج إليها في بحث القضايا المطروحة، فكل أساطين العلم هؤلاء يجتمعون في رواق المجمع الفقهي الدولي ليكون الطرح والنقاش المتعمق والحوار المتبادل في تحقيق علمي وبحث متجرد في ضوء الفقه والواقع والمقاصد.

وفي الختام فإن الشيخ الحبيب نقل عن شيخه الإمام الطاهر بن عاشور قوله: «إنما الفتوى إجادة التنزيل لا كثرة القال والقيل»، وأحسب أن الشيخ الحبيب كان يتمثل ذلك منهجا له في سيرته العلمية والعملية رحمه الله وأحسن جزاءه.

فالعلماء وإن غابت أبدانهم عن الأنظار تبقى آثارهم في النفوس والأسفار. أسكنه الله فسيح جنته وأسبغ عليه شآبيب رحمته وأحسن مثوبته على ما بذل وقدم للإسلام والمسلمين، وأصلح عقبه وذريته وأخلف المسلمين به خيرا.

* رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي وعضو هيئة كبار العلماء في السعودية