الولايات المتحدة والثورات العربية

TT

بعد مضي قرابة عام على «الربيع العربي»، وقبل أيام قليلة من الذكرى الأولى لتنحي الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم تحت ضغط الاحتجاجات العارمة، أخذت سياسة الولايات المتحدة تتضح تجاه الواقع الجديد، بعدما ظلت خلال العام الماضي تتبع سياسة وصفها الكثيرون بالتردد والاضطراب.

فمنذ بداية الربيع العربي الذي فاجأ الإدارة الأميركية، اتبعت الإدارة سياسة تقوم على التوازن بين المصالح والمبادئ الأميركية. وقد تجلت هذه السياسة بوضوح خلال العام الماضي في تعاملها مع الحركات والمظاهرات والاحتجاجات في العالم العربي المطالبة بالتغيير والحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فدعمت التغيير الفوري في كل من مصر وتونس، ودعمت استخدام القوة العسكرية التي نجحت في إنهاء حكم معمر القذافي في ليبيا، ودعمت مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي لإنهاء الأزمة في اليمن، وهي الآن كما دعمت تدعم مبادرة جامعة الدول العربية لإنهاء الأزمة في سوريا. وفي كل من هذه الحالات تقدمت المصالح حينا على المبادئ، وحينا آخر تقدمت المبادئ على المصالح. لكنها ظلت في جوهرها تحاول احتواء النتائج وتكييفها ما أمكنها ذلك، لتكون غير معادية للولايات المتحدة ومصالحها والمبادئ التي تنادي بها.

وفي تنفيذها لهذه السياسة ظل القائمون على صنع السياسة والقرار الأميركي يتابعون ويراقبون التطورات والنتائج أولا بأول، ويحاولون الإجابة عن الكثير من الأسئلة والاقتراحات المتعلقة بالتحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة في المنطقة في ضوء نتائج الربيع العربي. وما إذا كان هذا الربيع يشكل تطورا إيجابيا أم سلبيا بالنسبة للولايات المتحدة ومصالحها، وكيف ستتعامل مع القوى التي ستصل إلى السلطة في هذه المنطقة المضطربة والحيوية في آن واحد للمصالح الأميركية تحديدا، وللعالم بشكل عام.

وكان أبرز دواعي القلق لدى الإدارة ما أثارته المخاوف من احتمالات تسلم الأحزاب والحركات والقوى الإسلامية السياسية السلطة. وهو قلق أكده انتصار القوى الإسلامية السياسية في كل من المغرب وتونس ومصر من خلال الانتخابات التي جرت في تلك البلدان، وتم الإجماع على أنها كانت نزيهة وشفافة، وتعكس ما تختاره شعوب تلك الدول. بالإضافة إلى رجحان انتصار القوى الإسلامية السياسية في سوريا، إذا وقع التغيير وانهار النظام هناك، واحتمالات تفوق القوى الإسلامية السياسية في ليبيا وفي اليمن. وقد تعاملت الإدارة بما نتج عن الربيع العربي حتى الآن، وهو ما يسميه بعض أركان الإدارة وخبراء ومحللون سياسيون في واشنطن، بأنه زلزال كبير لم يهدأ بعد، وستكون له انعكاسات مهمة في المنطقة تستمر لسنوات عديدة مقبلة، بسياسة متوازنة أبرز سماتها حاليا هي الواقعية، حيث أدركت أن ما حدث أصبح أمرا واقعا سواء كان إيجابيا للولايات المتحدة أم سلبيا، وأن المطلوب من الولايات المتحدة الآن هو التركيز على كيفية وأسلوب الرد على هذا الوضع الجديد والتعامل معه، وما قد يجلبه من تحديات جديدة لواشنطن في منطقة حافلة بالتحديات، بدءا من إيران ومرورا بالعراق بعد انسحاب القوات الأميركية منه، إلى سوريا حيث الأزمة فيها مستمرة في التفاعل، إلى غيرها من دول المنطقة.

الآن وقد برزت القوى الإسلامية السياسية أكبر المنتصرين في المنطقة العربية، نرى الواقعية في سياسة الإدارة الأميركية تتبلور وتتحدد معالمها بوضوح يوما بعد يوم. إذ حل الاعتراف بهذه القوى والحوار معها محل القلق والخوف منها وتحديها، وهو قلق سيظل قائما ولن يتبدد. وبدت الإدارة تعمل بنصيحة الكثير من الخبراء في شؤون الشرق الأوسط، سواء داخل الإدارة أو خارجها، وملخصها أنه يجب على الولايات المتحدة في سياستها تجاه هذا الفصل الجديد من تاريخ منطقة الشرق الأوسط ودولها ألا تبالغ في الرد على التطورات والنتائج، وألا تقوم بالعمل مباشرة للتأثير على تحديد مسار هذا الفصل الجديد وتوجيهه، وذلك لأسباب عدة، منها أنه لم يعد للولايات المتحدة في المنطقة إلا القليل من الحلفاء، كما لم تعد لها القوة اللازمة لذلك. وبالتالي حسب نصيحة أولئك الخبراء، فإن على الولايات المتحدة أن تنتظر حتى تشكل القوى الإسلامية السياسية حكوماتها وتحدد سياساتها الخارجية، وفي ضوئها يجري الانخراط والتعامل معها، انطلاقا من الحفاظ على المصالح والمبادئ الأميركية في الشرق الأوسط الجديد الذي ربما يكون أكثر ديمقراطية، ويشمل عددا متزايدا من الحكومات الإسلامية، وربما يكون أكثر توترا من أي وقت مضى، حسب توقعات بعض المسؤولين في الإدارة.

وانطلاقا من السياسة الواقعية والمتوازنة، فتحت الإدارة حوارا مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي التي حققت فوزا كبيرا في الانتخابات التي جرت هناك. وتعددت اللقاءات بين مسؤولين من الطرفين، وكان منها اللقاءات التي أجراها في القاهرة كل من ويليام بيرنز نائب وزيرة الخارجية الأميركية، وجيفري فيلتمان مساعد الوزيرة هيلاري كلينتون، واللقاء الذي تم مؤخرا بين المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع والسفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون، حيث هنأته بفوز حزب العدالة والحرية في الانتخابات البرلمانية، وأبلغته استعداد الولايات المتحدة للتعاون مع الاختيار الذي أراده الشعب المصري.

وكذلك بدأ التعامل مع زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس راشد الغنوشي، الذي كانت الولايات المتحدة من أولى الدول التي يزورها بناء على دعوة من الإدارة، حيث أنكر في ندوة تحدث فيها في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، وهو من أقوى المراكز المؤيدة لإسرائيل في واشنطن، أنه سبق له أن وصف الولايات المتحدة بأنها «الشيطان الأكبر»، وأوضح أن البرنامج الانتخابي لحزبه لا يتضمن أي إشارة إلى قطع العلاقات مع إسرائيل، وأن المفروض ألا يتعرض الدستور التونسي سوى للسياسات طويلة الأمد التي تؤثر على تونس، والصراع العربي - الإسرائيلي ليس واحدا منها، حسب قول الغنوشي.

والجدير ذكره أن الولايات المتحدة في تعاملها مع الواقع الجديد في دول المنطقة تضع اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل في أولوية الأولويات التي يجب الالتزام بها من قبل الحكومة الجديدة التي تتشكل في مصر. وهو ما أكده مسؤولون في جماعة الإخوان المسلمين، بأن أي حكومة ستشكلها الجماعة ستحافظ على الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية الموقعة بين مصر وغيرها من الدول. وهذا ما بعث على ارتياح الإدارة الأميركية، وهو ما أكدته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية مؤخرا بقولها «إن جماعة الإخوان المسلمين في مصر قدمت للولايات المتحدة ضمانات بالنسبة إلى احترام معاهدة السلام مع إسرائيل، وقد قطعوا لنا تعهدات بهذا الشأن».

ومن الملاحظ أن الولايات المتحدة في سياستها تجاه الواقع الجديد في المنطقة، تعتبر مصر من أهم دول المنطقة بالنسبة لعلاقاتها مع الولايات المتحدة، وهذا ما أكده مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان أثناء زيارته قبل أيام لمصر، حيث صرح بأن مصر تعتبر أهم الدول التي تقيم الولايات المتحدة علاقات معها في المنطقة.

وفي هذا السياق، يتفق الخبراء والمحللون السياسيون في واشنطن على أن مصر وما سيسفر عنه ربيعها، أهم ما تركز عليه سياسة الإدارة الحالية، والإدارات التي ستليها، سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية، نظرا لتأثير ما ستشهده من تغييرات على المنطقة ودولها لسنوات عديدة مقبلة، وهي منطقة لا تزال الولايات المتحدة تعتبرها بالغة الحيوية للمصالح الأميركية. ومن هنا أشارت الاستراتيجية العسكرية الأميركية الجديدة التي أعلنها الرئيس أوباما مؤخرا، إلى أهمية وحيوية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، وأنها ستظل تحتل أولوية رغم أن الاستراتيجية الجديدة تضمنت تحول تركيز الدفاع الأميركي بشكل رئيسي تجاه منطقة آسيا والمحيط الهادي.

* سفير الجامعة العربية

السابق في واشنطن