المجمع العلمي وزغاريد النكبة

TT

مشهد لم أتخيل يوما أن يحدث على أرض مصر.. أحد أعرق المباني التاريخية يضم كنزا ثقافيا لا مثيل له يحترق وسيدة تطلق (الزغاريد) وشباب يرقص بينما آخرون يقذفون كرات اللهب وزجاجات البنزين المشتعل من نوافذ المبنى البائس والنيران تصرخ تطلب من يطفئها ولا أحد يستجيب. أفقدتني بشاعة المشهد القدرة على التفكير، غير مصدق أن هذا هو المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون بونابرت في 20 أغسطس (آب) عام 1798 من أجل تقدم مصر العلمي ونشر العلوم والمعرفة وبدء عصر جديد في مصر، وبدأ العمل في المجمع العلمي بأربعة علوم وهي الرياضيات، والفيزياء، والاقتصاد، والآداب والفنون الجميلة؛ والأخيرة تحولت في عام 1918 إلى الآداب والفنون الجميلة وعلم الآثار، وأضيفت كذلك العلوم الفلسفية والسياسة، والفيزياء والرياضيات، والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي.

لا يمكن أن يكون من تسببوا في الكارثة بشرا، بل شياطين أعماهم الجهل والحقد على الوطن فأبوا إلا أن يصيبوه في أعز ما يملك وهو تراثه الحضاري والثقافي. ومدى الكارثة لم يدرك بعد، لكن الأكيد أننا وبعد أن تتغير الظروف والمناخ السياسي في مصر سنذرف بدلا من الدموع دما وقد أضعنا جزءا من تراثنا، وتتعدى حدود الكارثة المؤلفات النادرة التي أكلتها النيران والمبنى التاريخي الذي يقارب عمره عمر الولايات المتحدة الأميركية.. لكن أن يحترق تراثنا في (عز الظهر) ونحن نشاهده بأعيننا ولا نحرك ساكنا، فلا بد أن هناك خطأ ما ومشكلة لا يجب أن تمر وننساها وإلا ستتوالى الكوارث علينا ولن ترحمنا ضمائرنا أمام الإنسانية، لا بد من آلية حقيقية لتجنيب التراث الإنساني سواء المادي أو الطبيعي كوارث السياسة ومشكلات الاقتصاد والمجتمع.

أذكر بحزن عميق دعوة الراحل العظيم سليمان حزين لإلقاء محاضرة بالمجمع العلمي عن الأهرامات ضمن اللقاءات العلمية الشهرية التي يدعى إليها العلماء في كافة التخصصات ومناحي العلم المختلفة، وهناك شاهدت مكتبة عظيمة وذخائر نفيسة.. عشرات الآلاف من المجلدات القيمة بنسخها الأصلية وآلاف الدوريات العلمية.. ثروة علمية هائلة احترق منها ما يقرب من 37 ألف مجلد ولا نعلم بشكل دقيق وإلى الآن حالة ما أفلت من النيران!

سيظل تاريخ هذا المجمع شاهدا على إحدى أهم وأعرق المؤسسات العلمية في مصر، حيث كان أعضاؤه من علماء مصريين وعرب وأجانب من المتميزين في العلم، وقد حفظ به ذاكرة مصر الحديثة منذ دخول الحملة الفرنسية وعصر النهضة خلال حكم الأسرة العلوية والطفرة الصناعية الهائلة التي نقلت مصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث.

لقد أحزنني أن أسمع تعليقات المثقفين في مصر على حريق المجمع العلمي وقد اختزله معظمهم في ضياع النسخة الأصلية من كتاب «وصف مصر» وذلك على غير الحقيقة، فهناك مؤلفات علمية لا تقل قيمة عن «وصف مصر» نذكر منها في مجال علم الآثار الأطلس الألماني عن آثار مصر وإثيوبيا والذي وضعه عالم الآثار الألماني ريتشارد ليبسيوس خلال البعثة البروسية في القرن التاسع عشر.

شتان الفرق بين الأمس واليوم، ففي يوم 28 يناير (كانون الثاني) من العام الماضي وقف شباب مصر يمسكون أيدي بعضهم البعض ملتفين حول المتحف المصري لحمايته وإنقاذه من النهب والسرقة وقد نجحوا في ذلك وحافظوا على ذاكرة مصر القديمة، وقد أعلنتها للعالم كله أن المتحف المصري بخير وأن كنوزه التي تتعدى 160 ألف قطعة أثرية سليمة وأن ما وصلت إليه يد اللصوص لا يمثل أي جزء في المائة من كنوز المتحف المصري، ونحن اليوم لا نزال ننتظر عودة 28 قطعة أثرية صغيرة لنعلن للعالم كله أن المصريين قادرون على حماية تراثهم وأن حريق المجمع العلمي لن يتكرر وأن الدرس قد تم استيعابه.. رحم الله العالمين الجليلين سليمان حزين ومحمود حافظ.