أيام فاتت.. اشتم ولا تمدح

TT

مرت أيام كان المداحون يكسبون عيشهم من مدح السلطان، ولكن هذه أيام فاتت وانتهت. أصبح السلاطين يعانون من تخمة المدح بسبب كثرة المداحين. السبيل الآن لنيل كرمهم وعطاياهم هو أن تشتمهم، فيهابونك ويخشون بأسك ولسانك فيسدون حلقك بالفلوس.

يظهر أننا مدينون للغرب حتى في ذلك. وهو ما رواه السيد بطرس قندلا. كان يعمل مترجما لصحيفة «الزمان» الذائعة الصيت، التي اختطفت اسمها صحيفة «الزمان» الحالية. اتصل به المستشار البريطاني في عهد الانتداب وأعطاه مقالة ليسلمها لرئيس التحرير السيد توفيق السمعاني. لم يكن هذا يعرف اللغة الإنجليزية رغم امتهانه مهنة الصحافة، فطلب من المترجم أن يترجمها له. فعل ذلك، أبو وسام، السيد قندلا فوجدها مليئة بالشتائم على إنجلترا والإنجليز وحملهم كل مشكلات البلاد ومسؤوليتهم عما جرى في فلسطين. لم يشأ أن يدخل في مشكلات مع السلطة الحاكمة التي كانت تمنح الصحف الرئيسية العراقية علاوات شهرية منتظمة ثمنا لولائها. فاعتذر عن نشر المقالة خوفا على علاوته الشهرية، مستغربا في نفس الوقت أن تأتيه بالذات من المستشار البريطاني نفسه. تصور أنه لم يطلع عليها.

أعاد السيد قندلا المقالة المشبوهة وشرح الموضوع له. قال: «نحن ندين بالولاء لحكومة صاحب الجلالة البريطانية ولا ننشر أي شيء يمس هذا الولاء أو يتعرض بالذم والشتم لسياسة حكومته تجاه العراق أو العالم العربي».

ابتسم المستشار وقال للمترجم: «كلا، نحن لا نريد منكم أن تمدحونا فتخسر جريدتكم التي نحمل لها كل التقدير ثقة الشعب العراقي ومصداقيته. هذا لا ينفعنا. انشروا بين الفينة والفينة شتما علينا ونقدا لسياستنا لتظهروا بمظهر الوطنية وتمسككم بعروبة فلسطين وحرصكم على نفطكم وثروات بلادكم. ونحن نثق تماما بالمستر سمعاني ونتمنى له ولصحيفته (الزمان) كل الموفقية والشعبية. تفضل! عد إلى الجريدة وسلّم ترجمتك لمصفف الحروف، ولا تخف! حاشا!».

فعاد ونشر كامل الشتم على بريطانيا وسياستها تجاه العراق والعرب ووعد بلفور ومخططاتها في اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم العالم العربي. وواظبت الجريدة على نشر مثل ذلك من حين إلى آخر. وواظب المثقفون والشعراء العراقيون على تلاقف جريدة «الزمان» وقراءة كل ما تقوله.

مرت بضعة أشهر ونادى نوري السعيد على توفيق السمعاني وقال له: «الدائرة الانتخابية لمنطقة الموصل أصبحت شاغرة. وليس بين العراقيين من هو أكثر منك أهلا لها. رشح نفسك للانتخابات والحكومة وراءك. ولا تخشَ لومة لائم». رشح السيد السمعاني نفسه وفاز فعلا بمقعد منطقة الموصل في مجلس النواب. فاز به واستمر بإشغاله لعدة دورات. وكسبت جريدة «الزمان» مكانة مرموقة بين جمهور المثقفين العراقيين، وكسبت الحكومة نائبا مخلصا لها لا يتوانى عن الوقوف بجانبها كلما تلبدت السياسة السعيدية الموالية لبريطانيا بالغيوم وتألبت عليها المعارضة. وكله بفضل توجيهات المشاور البريطاني.

وكانت «أيام وفاتت». وجاءت أيام فروى لي الحكاية صديقي الدكتور وسام، ابن السيد بطرس قندلا، كما سمعها من أبيه.