البعثيون أمام امتحان التاريخ

TT

ما إن أشار الدابي في تقريره إلى مجلس الجامعة العربية المنعقد على مستوى الوزراء إلى وجود مسلحين يبادرون بإطلاق النار على رجال الأمن، الذين يردون عليهم بالمثل، وهو ما أكده في مؤتمره الصحافي، حتى شعر النظام بنوع من الارتياح، لأن هذا بالضبط ما يحتاجه من أجل تغطية حملته العسكرية والأمنية المكثفة على المدن السورية غير آبه بسقوط مزيد من الضحايا الأبرياء من المدنيين، وخصوصا الأطفال والنساء. لقد صار لدى النظام حجة عنوانها «الإرهاب»، وهو إذ يستخدم القوة العسكرية فهو يستخدمها ضد «الإرهابيين» و«المخربين»، حسب زعمه. ويبدو لي أن إقرار الدابي بوجود المسلحين كانت بحاجة له روسيا أيضا وحلفاء النظام الآخرون لتبرير سياساتهم الداعمة منذ البداية لنهج النظام الأمني في قمع الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في سوريا منذ أكثر من عشرة أشهر.

في أجواء التقرير وتصريحات الدابي جاء المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية السوري، وليد المعلم، الذي هدد فيه بحسم الأمور باستخدام القوة على أوسع نطاق، وهذا ما حصل بالفعل في اليوم التالي لمؤتمره الصحافي، إذ بدأت تشكيلات عسكرية بمحاولات يائسة لاجتياح حماه وحمص وجبل الزاوية وريف دمشق ودرعا وغيرها من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام شعبيا، وعسكريا إلى حد كبير. وكما يبدو لم يستخلص النظام العبر من استخدامه للقوة المفرطة لقمع انتفاضة الشعب السوري في سبيل حريته وكرامته، وإن أكثر من ثمانية آلاف شهيد بين مدني وعسكري وعشرات الآلاف من المعتقلين والمهجرين غير كافية لاستخلاص نتيجة بسيطة جدا، وهي أن العنف يولد العنف المضاد، وأن الدم يستجر الدم، وأن السير في هذا المسار سوف يقود البلد إلى الدمار والخراب، وأن لا بديل عن الحل السياسي للخروج من الأزمة. إن أدرك كل ذلك فإنه يحتاج إلى رجال دولة، وليس إلى رجال سلطة، وهذا ما يفتقر إليه للأسف النظام السوري، وهذا ما برهن عليه مرة أخرى رد النظام على مبادرة جامعة الدول العربية لإيجاد مخرج سياسي تفاوضي للأزمة التي تعصف بسوريا. لقد بدت مبادرة الجامعة العربية للحل السياسي في سوريا خارجة عن سياق المهام التي انعقد مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري من أجلها، وكانت مفاجئة للكثيرين، على الرغم من التلميحات الكثيرة التي صدرت عن مسؤولين خليجيين وغير خليجيين، بأن ثمة مبادرة شبيهة بالمبادرة التي قدمت إلى اليمن يجري إعدادها لسوريا. وما إن أعلن وزير خارجية قطر، رئيس اللجنة العربية المكلفة بالملف السوري، عن المبادرة حتى ساد ارتياح كبير بصدده وسط المعنيين بالشأن السوري، إذ صار في الأفق مسار سياسي محتمل، فيمكن أن يفضي، في حال الموافقة عليه من قبل الأطراف المعنية، إلى الخروج من الأزمة السورية التي باتت أزمة عربية وإقليمية ودولية. المعارضة في الداخل وافقت عليها مع بعض التحفظات، المعارضة في الخارج لم ترفضها بل استمهلت لدراستها، الدول الغربية أيدت المبادرة، روسيا لم تقل كلمتها النهائية بعد، في حين رفضها النظام. لقد شكل رفض النظام للمبادرة صدمة في الشارع المؤيد له، وخصوصا في أوساط البعثيين الذين يستعدون لعقد مؤتمر لهم في الثاني من شهر فبراير (شباط) المقبل. تسرب هذه الأوساط معلومات تفيد بأن المؤتمر سوف يتخذ إجراءات حاسمة في ما يتعلق بالمسؤولية عن عدم تنفيذ الإصلاحات التي أقرها مؤتمرهم السابق، وكذلك في ما يتعلق بأداء السلطة خلال الأزمة، وربما سوف يتم تغيير كامل قياداته باستثناء الرئيس بطبيعة الحال. ومن أجل التخفيف من صدمة رفض السلطة لخطة الجامعة العربية لحل الأزمة في سوريا، تسرب هذه الأوساط ما يفيد بأن رفض السلطة هو رفض تكتيكي من أجل تحسين موقفها التفاوضي. فالمبادرة لا تنص على استقالة الرئيس، ولا على تخليه عن كامل صلاحياته لنائبه، بل عن «صلاحيات كاملة» في ما يخص تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي سوف تقود المرحلة الانتقالية إلى النظام الديمقراطي المنشود. وأكثر من ذلك تركت المبادرة الكثير من القضايا عالقة لتحسمها المفاوضات بين المعارضة والسلطة، ومنها قضية السماح للرئيس بالمشاركة في الانتخابات المقبلة. إن رفض السلطة للمبادرة العربية – كما يتساءل كثير من البعثيين - له معنى واحد وهو السير بالبلاد إلى الخراب والدمار من جراء الصراعات الأهلية، وما يمكن أن يترتب عليها بالتالي من استدعاء التدخل العسكري الخارجي، ولذلك فإنهم لن يكتفوا بالتصفيق هذه المرة، بل سوف يطالبون بأن تتحمل القيادة المسؤولية وتتنحى. وهناك من البعثيين من يهدد بالانشقاق وتشكيل حزب مواز في حال لم تستجب السلطة، بل بدأ بعضهم يقوم بذلك فعلا وصدرت بيانات باسم القيادة القطرية المؤقتة تحمل السلطة المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في سوريا، وتدعو البعثيين للمشاركة في الحراك الشعبي لإسقاط النظام. وللحقيقة فإن أعدادا كبيرة منهم لم تكن بحاجة لهكذا نداء لأنهم منذ البداية منخرطون في الحراك الشعبي على امتداد الوطن بعد أن تخلصوا من بطاقاتهم الحزبية، بل سقط كثير منهم شهداء على أيدي قوات حزبهم العسكرية والأمنية.

وهكذا حتى الحزب الذي عمد النظام جاهدا إلى القضاء على روحه الحزبية وتحويله إلى مجرد جهاز من أجهزة الدولة، بدأ يتحرك أخيرا، وبدأت ترتفع من داخله أصوات غير مريحة لقادته. تقول بعض هذه الأصوات التي أخذت تسمع في غير مكان، بأنه من غير المسموح أن تأخذوا البلاد إلى الهاوية، لذلك عليكم أن تتحملوا المسؤولية وترحلوا، ليأتي من ينظف الدولة من فسادكم. من غير المقبول بعد اليوم أن تحكم سوريا من قبل حزب واحد استولى على السلطة بانقلاب عسكري، وحافظ عليها بالحديد والنار، بل لا بد من التحول إلى نظام ديمقراطي تعددي تنبثق السلطة فيه عبر صناديق الاقتراع. لا شك أن البعثيين يقفون اليوم أمام منعطف تاريخي، فإما أن ينحازوا إلى شعبهم ويتخذوا قرارات جريئة وصائبة في مؤتمرهم المقبل، وإما أنهم سوف يواجهون الشارع ينادي بحل حزبهم أسوة بندائه بإسقاط نظامهم.