الدولة الثورية والدولة الدينية

TT

العالم العربي يتغير، هذا التغيير عادة ما يكون شموليا ويأخذ أبعادا عديدة، ولعل هذه النقطة بالذات هي أبرز سمات التغيير في العالم العربي منذ قرون طويلة، فالدولة العربية لم تتأسس على التدرج في التغيير بل تجنح للشمولية في ذلك.

وعادة ما يكون التغيير بصيغة الانقلاب على الماضي ورفض ما هو مرتبط بالحقبة الماضية، ويأتي هذا من باب أن التغيير الذي يحصل يقوم على أن ما كان موجودا في الماضي القريب لم يعد صالحا للحاضر والمستقبل.

ومن هنا وجدنا أن «ربيع العرب» الثوري يطرح الآن أسئلة التغيير منطلقا هذه المرة من ركائز دينية تحاول فرض الدولة الدينية في مجمل مناحي الحياة، وفي مقدمتها الثقافية وصولا إلى القرار السياسي والاقتصادي. ووفق هذا المعنى فإن القوى والتيارات والأحزاب الدينية في العالم العربي تجد أنها بحاجة ماسة إلى أن تستثمر ما هو موجود الآن من بنية اجتماعية وثقافية تميل للدين كأساس للحياة وليس كأساس للوصول إلى السلطة، لكن ما نجده الآن في عالمنا العربي هو أن الأحزاب الدينية تحاول أن تأخذ من الدين سلما للسلطة، وهنا تبرز أسئلة كثيرة لا تبتعد عن الدين والحياة العامة: علاقة الدين بالدولة، وعلاقته بالثقافة والسياسة، وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى أن نتوقف عندها كلما اقتضت الضرورة ذلك.

ولعلنا في عالمنا الإسلامي نحتاج في كل فترة إلى أن نعيد طرح أسئلة التجديد، ولكننا في الفترات السابقة كنا نطالب بالتجديد الديني ومواكبته للعصر، دون أن نسأل أنفسنا: هل ثمة تعارض بين الدين الإسلامي والتطور الحاصل؟ بمعنى هل الخلل في الدين أو في الفكر السائد حاليا أو في مرحلة من المراحل؟ وهذا ما جعل البعض يتساءل: هل المطلوب من الدين أن يتماشى مع الآيديولوجيات المطروحة لينال رضاها أو العكس هو الصحيح؟

ولو نظرنا للواقع الثقافي العربي والإسلامي فسنجد أن المثقف هنا لا يمكن له أن يبتعد عن الدين أو يتقاطع معه، لأن هذا التقاطع سيجعله بدرجة أو بأخرى غير مقبول في المجتمع الذي يعيش فيه، خاصة إذا ما كان هذا المجتمع متدينا إلى درجة يصعب معها إيجاد مقاربات فكرية تؤمن بروز أفكار جديدة بشكل أو بآخر.

لهذا عندما نأخذ الدين الإسلامي كفكر سماوي متكامل يصلح لأن يكون أساسا للحياة وينظمها بالشكل السليم والصحيح، لا نجد ثمة تعارضا مع ما هو موجود حاليا لأن أحد أهم المناهل التي يرتشف منها المثقف هو الدين الإسلامي، ليس بوصفه تراثا كما يحاول البعض الإيحاء بذلك، بقدر ما أنه أساس وثقافة وشعور وانتماء وهوية.

ثم علينا أن ندرك بشكل جلي أن الإسلام في قرونه الأولى كان يبحث عن الحداثة ويتواصل معها، فكانت هنالك سلسلة مترابطة من الأحداث الفكرية التي جعلت من الإسلام دين أمم كثيرة وشعوب ما كانت لتدخل الإسلام آنذاك لولا مجموعة من القيم والممارسات التي جعلت من هذا الدين مرغوبا فيه لدى هذه الشعوب والأمم. فأنشئت مدارس فكرية وعلمية عديدة في أمصار العالم الإسلامي وانبثقت مع مرور الزمن أفكار ورؤى كانت غايتها بالتأكيد أن يواكب الدين الإسلامي العصر ولا يتناقض معه بحكم أن الإسلام كدين لم يكتمل في يوم واحد بل احتاج إلى عقدين ونيف من السنوات لتكتمل الرسالة، وهذه فترة زمنية استطاع فيها الإسلام أن يترسخ عبر التدرج حينا وبناء القناعات حينا آخر.

وهذا يجعلنا نستنتج أن الدين الإسلامي واكب تطورات كثيرة في الـ23 سنة التي اكتمل فيها القرآن الكريم وانتقل فيها من مكة القرية إلى يثرب المدينة بل وتعداها إلى الحبشة وما حول المدينة المنورة. فكانت الدولة الإسلامية في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن بعده قائمة على الانفتاح والتسامح من جهة، وانفتحت بشكل كبير على الأمم والديانات الأخرى من جهة ثانية، فكان هنالك ما يشبه الحوار الحضاري بين العرب المسلمين وغيرهم حتى وصل الإسلام إلى إسبانيا عابرا المتوسط حاملا لواء القيم التي مهدت له البقاء أطول فترة.

إذن، الدين الإسلامي هو دين تجديد وإلا لاكتفى بأن ينتشر في الجزيرة العربية فقط، وعندما نقول دين متجدد، فلأنه رسالة ليست للعرب وحدهم بل للعالم أجمع، هو دين كل زمان ومكان ولا يمكن أن ينغلق على ما أنجز في عصر من العصور، لأن ذلك سيحول هذا الدين إلى تراث جامد غير قابل للتطوير والتجديد وسيأخذ القالب الذي توقف عند الآخرين، وفي مقدمتهم أصحاب الأفكار التي استندت إلى مرحلة معينة ولم تطور نفسها لتواكب العالم.

لذا نجد اليوم أن التيارات والحركات والأحزاب الإسلامية الموجودة في الساحة العربية كجزء من المشهد السياسي العام بعد ثورات «الربيع العربي»، تحاول جاهدة أن تستثمر الدين لصالحها سياسيا، ومن ثم تنتقل بهذا الاستثمار في ميادين أخرى أهمها الثقافية والاقتصادية، وهذا أمر يخيف الكثير من التيارات العلمانية والليبرالية التي تجد أن هذا من شأنه أن يعيد إنتاج الاستبداد، وخاصة أن الكثير من التيارات والأحزاب الإسلامية تحاول فرض ما تريده على الآخرين حتى وإن تطلب ذلك استخدام القوة.

وهذا ما يجعل الدولة العربية وشكلها ينتقل من الدولة الثورية ودولة الحزب الواحد إلى الدولة الدينية، ويجعل أحد أهم أهداف ثورات «الربيع العربي» بتشكيل الدولة المدنية يغيب عن المشهد العربي، وقد يطول هذا الغياب سنوات أخرى.