بل.. الإسلام إلى تقدم وصعود

TT

تعجل أقوام بـ«نعي الإسلام»، أو استبشروا بـ«العد التنازلي» له، حسب أمانيهم.. فمنهم من تورط في قياس فاسد حيث قاس الإسلام على انحسار موجة الإرهاب، ومن ثم فإن الإسلام سينحسر كما انحسر الإرهاب!! ومنهم من قاس الإسلام على الشيوعية والاتحاد السوفياتي كما فعلت كونداليزا رايس في محاضرة لها، إذ شبهت الإسلام وعالمه بالشيوعية وعالمها. ولما كانت الأخيرة قد انهارت - فلسفة ودولة - بفعل الفكر الغربي القوي الموجَّه - كما قال ريتشارد نيكسون في كتابه «نصر بلا حرب». لما كان الأمر كذلك، فإن الإسلام وعالمه إلى انهيار أيضا إذا استخدم معه ذات الأسلوب (للأمانة فإن نيكسون لم يقل ذلك، وإنما قالته كونداليزا رايس).. فمن مضامين محاضرتها المشار إليها:

أ) أن العالم الإسلامي يستحيل أن يظل جامدا راكدا إلى الأبد.

ب) أن ضرورة التغيير في العالم الإسلامي لن تكون مجدية إلا إذا بدأت بتغيير الأفكار والمفاهيم «العتيقة»!

ج) أن الولايات المتحدة عليها دور كبير في هذه القضية بحيث يتوجب عليها أن تكون لديها استراتيجية مفاهيم جديدة في تغيير العالم الإسلامي.

د) وفي هذه الاستراتيجية ينبغي أن تستأنس بالاستراتيجية الفكرية التي انتهجتها تجاه الشيوعية والاتحاد السوفياتي.

هـ) أن هذه الاستراتيجية ناجحة بكل المقاييس لا سيما أن هناك أوجه شبه بين الشيوعية وعالمها والإسلام وعالمه.

وهذه جهالة «كاملة».. والقياس الفاسد هو من مواليد الجهالة دوما. وكنا قد رددنا على رايس في حينه. وخلاصة الرد أو نقض القياس الفاسد:

أ) أن الإسلام «دين» من عند الله، نزل به جبريل عيه السلام على قلب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).. نعم، الإسلام «دين» وليس أيديولوجية لفقها من هنا وهناك كارل ماركس.. وقد لا تؤمن رايس بذلك. وهذا من حقها في الاختيار، بيد أن هذه الحقيقة (حقيقة أن الإسلام دين من عند الله) يمكن الوصول إليها من خلال منهج علمي هو منهج مقارنة الأديان السماوية الكبرى (الإسلام واليهودية والمسيحية).. من حيث أصل الوحي المشترك.. وثبوتية النص المنتسب إلى السماء وتوثيقه: موضوعيا وتاريخيا.

ب) أنه بناء على هذا الإسلام المنزل من عند الله: نشأ تاريخ، وانبنت حضارة، وتكونت أمة، وأن عمر هذا النسيج التاريخي الحضاري البشري هو 1443 سنة. بينما لم تعمّر الشيوعية إلا سبعة عقود (1917 - 1985).

ج) في حين ينفض الناس من حول الشيوعية لأسباب موضوعية عديدة، نرى الناس - لأسباب موضوعية عديدة - يفيئون إلى الإسلام بلهفة وعقل وحب وحنين، سواء كان هؤلاء الناس مسلمين أصلا غفلوا عن دينهم دهرا، أو كانوا ممن دخل في الإسلام حديثا، كما تشير الدلائل المبشرة في قارات الأرض كلها.. والضميمة المهمة هنا أن هؤلاء المسلمين الجدد الكثر اختاروا الإسلام باقتناعهم الحر، ولم يدخلوا فيه بقهر السيف، ولا برشوة مالية.

وبمقتضى العقل والمعرفة ومنهج المقارنة المعتبر، لا وجه - قط - للمقارنة بين الشيوعية وعالمها، وبين الإسلام وعالمه.

وتبدو الأماني المجنحة في ذبول الإسلام وتراجعه وكأنها مجرد «أمراض نفسية»، وإلا فليس هناك أي عقلانية ولا مصلحة في زوال الإسلام من الكوكب.. فإذا كانت البشرية تتحرق شوقا إلى «وحدتها الإنسانية الكوكبية» فإن الإسلام أقوى داع إلى هذه الوحدة المتنوعة الأعراق، المهرولة إلى التعارف والتفاهم: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».. وإذا كانت البشرية تريد مزيدا من النضال المشترك ابتغاء تعزيز «كرامة الإنسان» - كل إنسان - فإنها واجدة في القرآن نصا محكما يعينها على ذلك: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».. وإذا كان أهل الكتاب - بوجه خاص - يريدون توثيق دياناتهم، وأنها - في الأصل - من عند الله، فإنهم واجدون في القرآن بغيتهم حين يقرأون: «نَزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل». وحين يقرأون: «وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه».

ويتعين - هنا - مزيد من التوكيد على حقائق ثلاث:

1) حقيقة أن الإسلام قد جاء ليبقى هداية للناس أجمعين إلى آخر الدهر. فليس له بديل ولا ناسخ قط. فلا وحي بعد القرآن، ولا نبي بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه الأنبياء كافة.

2) حقيقة أن محاولات كبت الإسلام أو إطفاء نوره هي محض وهم. فلقد تنزل على نبي الإسلام في حجة الوداع قوله جل ثناؤه: «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».

فما العلاقة بين «التيئيس» من هزيمة الإسلام وبين إكمال الدين، وإتمام النعمة؟ العلاقة هي: أنه ما دام الرسول قد نجا من جميع المكايد ومؤامرات الاغتيال حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة عبر ربع قرن تقريبا، فإن جميع محاولات الكيد الآتية مصيرها الخيبة التامة. فبكمال الدين نزل القرآن كله وحفظ، واكتمل بيانه بالسنة. فماذا عسى أعداء الإسلام أن يفعلوا بعد ذلك؟ الشيء الوحيد الذي يستطيعونه هو مضغ اليأس واجتراره فحسب. ولذا جاء في القرآن: «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم».. واليوم المشار إليه هو يوم كمال الدين، وتمام النعمة. وهو اليوم الذي أشهد فيه النبي اللهَ الذي أرسله، وأشهد فيه أمة المسلمين على أنه قد «بلّغ»: بلغ القرآن كله وبلغ بيان القرآن كله، أي السنة.

3) حقيقة أن الواقع التاريخي قد صدق الحقيقتين الآنفتين: حقيقة ألا وحي بعد القرآن ولا نبي بعد خاتم النبيين.. وحقيقة أن محاولات إطفاء نور الإسلام قد ثبت أنها كلها محاولات يائسة، وهي محاولات اتخذت صورا شتى: الصورة الفكرية والثقافية للتشكيك في الإسلام، والصورة العسكرية لاجتثاث أمة الإسلام من الأرض.. إلى غير ذلك من صور المعركة وأشكالها وأساليبها.

وإذا كان لا بد من ربط ما تقدم بـ«الواقع»، فإن هذا الواقع يقول إن من أعمق وأقوى أسباب وصول الإسلاميين إلى الحكم في أكثر من بلد عربي، سبب أن المسلمين يحبون إسلامهم، وينعطفون نحوه، ويستجيبون لكل داع له، بغض النظر عن أهداف الداعي الحقيقية.. وهذا موقف يحمل الإسلاميين مزيدا من المسؤولية في الجد والصدق في الأخذ بالإسلام، وليس من هذه المسؤولية أن يقول ناشطون أو ناشطات إسلاميات: إننا غير مقتنعين بتطبيق شريعة الإسلام، فهي «مصدر إلهام» فحسب، ذلك أن مثل هذا التلاعب بالإسلام سيحمل المسلمين الأطهار المخلصين على أن ينفضوا من حول الإسلاميين، لأنهم إنما صوتوا لهم في الانتخابات لكي يحققوا أمانيهم في تطبيق شريعة الله عز وجل. نعم. ولم ينتخبوهم لكي يعلموهم الصلاة والصوم والحج فهم - في حقيقة الأمر - يؤدون هذه الفرائض من تلقاء أنفسهم.

ثم إن تجربة الإسلاميين المرتقبة ليست هي الحكم النهائي على مسيرة الإسلام. فهذا الدين قد وجد قبلهم وسيستمر من بعدهم يقينا، وكل تجربة فاشلة يبوء بها أصحابها ولا تحسب على الإسلام: «وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم».

والزمن مفعم بكل الاحتمالات المفتوحة.