تمثيل نيابي بلا ضرائب

TT

انتخب الكويتيون، الخميس، 50 نائبا برلمانيا لمجلس الأمة الرابع عشر، من بين ما يقارب 300 مرشحا (و23 مرشحة) بإشراف قضاة في كل مراكز الاقتراع و300 متطوع من جمعية الشفافية الكويتية وعشرات المراقبين والمراقبات الدوليين المتعددي الجنسية من المنظمات الدولية وجامعات ومراكز أبحاث.

الشفافية كانت أهم مميزات الانتخابات الكويتية، بدءا من صناديق الاقتراع المصنوعة من مادة شفافة وحتى ممثلي المرشحين (متوسط العدد الموجود داخل غرفة الاقتراع نحو 15، أمام كل منهم قائمة باسم الناخبين في المركز، ضمانا لعدم أي تلاعب).

انتخابات الكويت (الأقدم في المنطقة حيث تأسس مجلس الأمة الكويتي قبل 50 عاما كأول برلمان في الخليج)، كانت الأكثر تنظيما بين الانتخابات الثلاثة الأخيرة التي أعقبت ثورات شمال أفريقيا واليمن وسوريا. لكن هذا لا يعني غياب السلبيات أو إنكار أن أمام الكويتيين مسيرة طويلة من الإصلاحات الديمقراطية والتعديلات، حتى لا تستمر التجربة الأقدم كمجرد «تجربة» فتكون ديمقراطية «محلك سر» لا تتغير.

ورغم أن العالم كله يتطلع إلى الاستقرار، فإن استمرارية الاستقرار أحيانا ما تصبح طوقا محكما يصعب الخروج منه إلى الأمام، ومن ثم يجب العمل على توسيع الدائرة تدريجيا. التغيير الملاحظ في شكل العلاقة بين ممثلي الشعب والحكومة أن نهاية البرلمان الثالث سجلت سابقة. فلأول مرة في نصف قرن سيلاحظ قراء صحف الكويت تعبير «رئيس الوزراء السابق»، فقد استقال رئيس الوزراء السابق قبل شهرين، بعد أن وصل التعاون مع البرلمان إلى طريق مسدود؛ وحل مجلس الأمة لانتخاب مجلس جديد.

لكن لا تزال التركيبة الدستورية الديمقراطية كما هي لم تتغير منذ 1962. ولعل أهم السلبيات التي ظهرت كان ارتفاع حدة العنف الخطابي لدى بعض المرشحين أثناء الحملة الانتخابية، بشكل لم تعهده الكويت من قبل، بلغ مستوى تبادل الاتهامات والتشكيك في الوطنية، رغم تحذير العقلاء وقدامى الساسة من خطورة أن يتطور العنف اللفظي إلى عنف ضد الأشخاص والممتلكات وهو ما حدث قبل التصويت بيومين. إهانة أحد المرشحين لقبيلة بأكملها، جاءت برد فعل عنيف من شباب القبيلة الذين هاجموا مركزه الانتخابي ودمروه. وتعرضت استوديوهات محطة تلفزيونية لاعتداءات مماثلة.

وبسبب متابعاتي لانتخابات برلمانية كويتية عبر السنوات كانت مسألة العنف مفاجأة غير متوقعة في المشهد الانتخابي الكويتي الذي يتمتع تقليديا بجو احتفالي ومآدب عشاء وتقديم مرطبات، لكن ربما كان طابع الخطابة الحماسية قد تطور إلى لغة لم يتعودها الكويتيون.

ورغم أنها الدورة الرابعة عشرة من الانتخابات البرلمانية على مدى نصف قرن، فإن نشاط المرشحين أثناء حملات الدعاية الانتخابية، لم يصل بعد مرحلة التحاور والمناقشات الفردية بين المرشح وفريق مساعديه، والناخبين كأفراد، حول البرنامج الانتخابي. الملاحظ أن الكويتيين عرفوا الحوار الهادئ مع الاختلاف الشديد في الرأي بصدر رحب في الديوانيات المفتوحة للجميع، وهو تقليد قديم في الكويت، استمر حتى أثناء احتلال الكويت.

الملاحظ أن الحملة الانتخابية على مر السنوات اتخذت طابع «political rally» أي طابع المظاهرة. ولا أقصد أن الناخبين أو الأهالي الذين دعاهم المرشح أو المرشحة يخرجون في مظاهرة، بل إن من يقدم المرشح، كواحد أو أكثر من أنصاره ثم المرشح نفسه، يلقي خطبا ناريا على الناخبين أو الجمهور المستمع الذي يصفق بحماس. وهذا عكس المتوقع في الانتخابات البرلمانية، خاصة في نظام الدوائر النيابية الجغرافية. فالمتوقع أن يكون الاجتماع الانتخابي في خيمة المرشح هو حلقة نقاش حواري هادئ بين أبناء وبنات الدائرة في ناحية، وفي الأخرى الناخب والمجموعة العاملة معه، بالأجر أو تطوعا، حول برنامجه وحول مطالبهم، وما إذا كان برنامجه يلائمهم أم يطلبون منه تعديله، أو يفاضلون بينه وبين منافسيه.

مثلا في بلد كبريطانيا، تجد أن الناخب ومعاونيه (staff) أو العاملين في حملته، يطرقون أبواب المنازل، ويناقشون الناخب على عتبة الدار، ويسير في الأسواق ويدخل المحلات التجارية والمقاهي ليحاور روادها، والمناقشات تتخذ الطابع الفردي حول القضايا المحلية.

لعل أهم الفوارق عدم وجود أحزاب سياسية في الكويت، في حين أنه في بلد ضخم، جغرافيا وسكانيا، كبريطانيا مثلا، تجد أن للحزب برنامجا انتخابيا محددا ومعروفا على المستوى القومي، ولذا تتم المناقشات في الأسواق وعلى عتبات المنازل حول القضايا المحلية (أو إذا قالت ربة منزل مثلا إنها ستصوت لحزب منافس، يقضي المرشح معها وقتا طويلا ليتفهم أسباب عزوفها عن حزبه ويحاول إقناعها بأن برنامجه أفضل، أو يعد بتعديل البرنامج مثلا).

ومع غياب أحزاب تحدد برامجها قبل الانتخابات بأشهر طويلة، تجد أن المرشحين الذين يخوضون الانتخابات كأفراد، غالبا ما يتجمعون في تيارات: التيار الديني الإسلامي، (من سلفيين، وإخوان؛ وجماعة إسلامية) فازوا بأكثر من نصف المقاعد؛ والشيعة؛ ثم لتيارات الليبرالية كالتحالف الديمقراطي، والمنبر وقد خسروا نصف مقاعدهم؛ وهناك مرشحو القبائل، حيث تتفق كل القبيلة على مرشحين يمثلونها؛ هذه المرة رشحت امرأة مرتفعة الوعي والتعليم نفسها وحدها مستقلة مخالفة لإجماع قبيلتها تمنى الليبراليون جميعا نجاحها، لكنها خسرت؛ إذ لم تنجح أي من النساء.

الملاحظ تناقص تأييد النساء المرشحات حسب ما اكتشفنا من محادثتنا مع عدد كبير من الكويتيات. وقد أرجعن السبب إلى أن أخواتهن اللاتي مثلهن في المجلس الثالث عشر خيبن آمالهن كمواطنات كويتيات، وكن يتوقعن أن يحققن لهن قفزات أكبر في مجال المساواة والحقوق. ومع غياب الأحزاب فإن النساء الأربع في المجلس الماضي، لم يتحركن وينسقن ويصوتن ككتلة سياسية واحدة، وإنما انقسمت جهودهن وتوزعن في التحالف مع كتل مختلفة بسبب غياب أحزاب واضحة البرامج.

ومما يجعل مسألة تكوين الأحزاب أمرا مستبعدا في المستقبل القريب (بل وغير مرغوب، خشية أن يؤدي إلى انقسامات طائفية ودينية وقبلية) هو العلاقة بين الديمقراطية والضرائب.

فالتمثيل النيابي الكويتي هو الفريد من نوعه في والعالم: تمثيل نيابي بلا دفع ضرائب، عكس المقولة الأشهر «no taxation without representation» أي أن دفع الضريبة يقابله التمثيل النيابي.

لكن لا أحد يدفع ضرائب في الكويت، والمواطن يتلقى كل شيء منذ مولده، وتعليمه ورعايته صحيا، وحتى جنازته ودفنه، مجانا على نفقة الدولة.

لم ولن يوجد السياسي الذي يعد بفرض ضرائب جديدة في برنامجه الانتخابي. أي أن مطالب المواطن من نوابه في البرلمان ستكون كالمطالب النقابية أكثر منها برنامجا سياسيا. ولعل هذا يفسر ارتفاع حدة الخطابة واللهجة لأن المعارضة، مثل كل الخدمات في الكويت، مجانا، فيتحول معظم النواب إلى معارضة.