الانصراف بالتي هي أمكن برسم بشار

TT

إذا كان عام 2011 هو عام التغيير العربي الجزئي «المضمخ» بأنفاس أطلسية ومن دون أن يتم حسم ما جرى هل كان انتفاضة أم ثورة أم فورة أم على حد ما قاله مواطن مصري عبر استطلاع فضائية مصرية «كان الذي جرى عورة»، فإن عام 2012 سيدخل التاريخ العربي المخضرم على أنه عام إيقاف موجة التغيير عند حد «حاجز حفظ ماء الوجه» الذي هو مثل الحواجز الإسمنتية التي يتم استحداثها لدرء اندفاع إعصارات كذلك الذي حدث على الشاطئ الياباني جارفا الحجر والبشر وكل ما هو على الأرض بما في ذلك الطائرات والشاحنات. وبفعل «حاجز حفظ ماء الوجه» وجدنا الموجة تصطدم بالحاجز، ونجد بالتالي ظاهرة التغيير تراوح مكانها، فلا قدرة لها على مواصلة الاندفاع، ولا هي موضع رضا الناس على استمرارها.

نستند في هذا الذي نقوله إلى ما حصل في مصر، وتحديدا مفاجأة الدكتور محمد البرادعي الذي هو رائد تيار المواجهة الكلامية الفاعل ضد حكم الرئيس السابق حسني مبارك، والذي استطاع تحقيق التفاف حوله في فترة زمنية قياسية، خصوصا أنه حديث العهد في المواجهة، حاله حال مواطن مغترب حقق نجاحا ماليا في بلاد الاغتراب وعاد بعدما تقدم به العمر إلى بلده ليستثمر ما جناه في مشروع يعتاش منه. كذلك نستند إلى ما انتهت إليه المنازلة اليمنية وكيف أن ما تحقق للرئيس علي عبد الله صالح كان أشبه بالعلاج السحري لإنقاذ حالة مرضية مستعصية، فضلا عن أن النهاية السعيدة للمنازلة حفظت ماء وجه اليمن الوطن والشعب والرئيس في وقت واحد، وإلى درجة أن الرئيس السابق حسني مبارك كان يتمنى لو حصل له ما حصل للرئيس علي عبد الله صالح، بدلا من أن يبقى على النحو الذي هو عليه منذ أن تقررت محاكمته، ممددا على نقالة تحمله من سرير في المستشفى إلى طوافة تنقله إلى مبنى المحكمة، ثم يتم إنزاله ممددا على النقالة ووضعه داخل قفص المحكمة، ثم تبدأ رحلة العودة إلى سرير المستشفى، وهو مشهد مسيء إلى مصر الدولة والشعب، ومهين إلى رئيس بالغ ملايين المصريين في تعظيمه يوم كان في سدة الرئاسة، وها هم يبالغون في إهانته الآن، ولا ندري كيف ستكون عليه حالهم إذا حدثت في اللحظة الأخيرة مفاجأة، بحيث تأخذ المحكمة في الاعتبار المطالعات المثيرة للمحامي فريد الديب، كبير المدافعين عن مبارك، ونطالع في الصحف وعبر الفضائيات ما يفيد بأن مبارك الظالم انتهى مظلوما، وفي هذه الحال سنرى الأطياف التي رمته بكل أنواع الذم تعاود الإشادة به. فهذه مع الأسف طبيعة شخصية المصري، لا يحبذ الوقوف إلى جانب الآخر، فإما أمامه وإما وراءه. كما نفترض أن الرئيس الآخر زين العابدين بن علي، والذي حاله جسديا أفضل بكثير من حال مبارك، خاطب نفسه وهو يتابع ما حصل لعلي عبد الله صالح بالقول: يا ليت هذا الذي جرى له حصل معي.

الذي فعله البرادعي، والذي كانت أفكاره ونسبة الالتفاف الشعبي حوله من شأنها أن تحقق احتمال فوزه بالرئاسة، قرر فجأة الانصراف، وذلك بعدما وجد أن السلطة التشريعية باتت في عهدة الإسلاميين (الإخوان والسلفيين) وأنه لكي يحظى بتأييدهم له رئيسا للجمهورية عليه أن يجاريهم في أفكارهم، وهذا معناه أنه ينقلب على ما كان يبشر به. وهو لو قرر الانصراف قبل أن تبدأ النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية لكان بدا في ذلك أنه غير مرتاح لما يحدث، وأنه بالتالي لن يحقق برنامجه وإن انصرافا بالتي هي أمكن أفضل وأكرم له من هزيمة متوقعة على أساس أنه إذا فاز الإسلاميون لن ينال منهم التأييد إلا في حال نالوا منه المجاراة، وإذا مدد المجلس العسكري فترة البقاء فإنه لن يكون قادرا على مواجهة الجنرالات. وهكذا نراه يوم السبت 14 يناير (كانون الثاني) 2012، قبل عشرة أيام من حلول ذكرى «ثورة 25 يناير» وبينما معركة السلطة التشريعية حسمت لمصلحة الإسلاميين واختار «الإخوان» لرئاسة «مجلس الشعب» الدكتور سعد الكتاتني، يصدر بيانا يعلن فيه انسحابه من سباق الرئاسة محملا «المجلس العسكري» وزر إصرار الجنرالات الحفاظ على النظام السابق، مضيفا «إن الربان - يقصد المجلس الأعلى للقوات المسلحة - أدخلنا في متاهات وحوارات عقيمة وانفرد بصنع القرارات وبأسلوب ينم عن تخبط وعشوائية في الرؤية...»، وفي الوقت نفسه لا يسمح «أن يحمل ضميره بالترشح للرئاسة أو أي منصب رسمي آخر إلا في إطار نظام ديمقراطي حقيقي يأخذ من الديمقراطية جوهرها وليس فقط شكلها». وفي حين عزى البرادعي في بيانه «الشهداء الأبرار وآلاف الضحايا من المصابين»، فإنه لم يعتذر عن قراره بالانسحاب من سباق الرئاسة الأولى من عشرات الألوف الذين التفوا حوله وساندوه في معركة الرئاسة، وهو بذلك ترك وراءه خصومة دائمة مع المؤسسة العسكرية وحالة ارتباك في أوساط الذين وقفوا معه سيتشتت شملهم بين هذا المرشح أو ذاك أو النأي عن تأييد أحد كنوع من التعزية غير المعلنة «مرشحهم البرادعي» الذي بدا عزوفه وهذا الأسلوب في الانصراف نوعا من الأنانية بمعنى أن الذي يعنيه كان شخصه وليس حماسة أطياف عريضة من المصريين لترؤسه. وعند التأمل في ردود الفعل على ما فعله نجد أن هناك ما يشبه خيبة الأمل به أكثر من الإعجاب بما ارتآه في لحظة الحاجة إلى بقائه.

وبالعودة إلى الانصراف الآخر فإننا نرى أن الرئيس علي عبد الله صالح حقق ما يشبه حال فوز أحد المساكين الذين ضاقت بهم سبل العيش وفجأة يجد أن أرقام ورقة اليانصيب التي اشتراها بمبلغ زهيد ربحت الجائزة الكبرى وبات يملك ملايين. وبالمقارنة يمكن القول إن ذلك المسكين هنا هو الرئيس علي عبد الله صالح الذي باتت هناك استحالة لبقائه في الحكم كما لتحقيق تطلعاته من حيث توريث ابنه، وأن ورقة اليانصيب ذات الستة أرقام هي المبادرة الخليجية التي أوضحت أن الرجل ليس فقط لم ينته كما انتهى الرئيس حسني مبارك ومن قبل الرئيس زين العابدين بن علي وبينهما الرئيس معمر القذافي، وإنما نال أفضل انصراف، ذلك أنه لم يغادر إلا بعدما حصل على الحصانة التي تنجيه من ملاحقة كتلك التي ستطول وتتشعب بالنسبة إلى بن علي ومن مطاردة متقطعة للرئيس عمر حسن البشير ومن محاكمة مهينة للرئيس حسني مبارك بقدر ما هي مسيئة للسمعة المصرية. وهذه الحصانة معناها أن الإقامة ممكنة خارج اليمن في الولايات المتحدة التي سافر إليها بغرض العلاج وفي أي بلد خليجي ما دامت المبادرة خليجية والأخذ بالحصانة نتيجة نصيحة خليجية – دولية، وهذا يعني أن لا محاكمة له ولا أحكام عليه مما يجعله طريدة لمحكمة دولية أو سواها، وفي هذه الحال فهو موضع القبول إذا لم نقل إنه موضع الترحيب. لكن المهم أن يرضى عبد الله صالح ويقنع بالدهر الرئاسي الذي ناله فلا يعتبر أن الحصانة هي بمثابة حق مشروع يجيز له أن يحذو حذو نظيره الباكستاني برويز مشرف الذي يصر على العودة إلى باكستان بأمل أن يستأنف الترؤس غير عابئ بالتحذيرات له من أنه سيلقى نهاية بي نظير بوتو أو سيتم القبض عليه لمجرد نزوله من الطائرة التي ستقله من لندن إلى إسلام آباد. ولعل تطلعات علي عبد الله صالح إلى أن يستأنف، سببها أنه سيثأر من الذين تسببوا بالقذائف الحارقة التي أطلقوها عليه وهو في المسجد بتشوهات في يديه ووجهه. كما أن هذه التطلعات يمكن أن نقرأها بين سطور كلامه الاعتذاري من الشعب اليمني أو نلاحظها في قسمات وجهه وهو يتلفظ بالاعتذار الذي كان رغم كل الافتراضات يؤكد ظاهرة الحضور المنجي للحذاقة السياسية لدى رجل الدولة. وبهذا الاعتذار الطفيف يطفئ بعض الشيء من النار التي تركها مشتعلة في صدور نصف اليمن أو أكثر نتيجة أنه اعتبر كسائر جنرالات حكموا أن الوطن كما الشعب هما الحاكم.

ونخلص إلى القول إن بداية عام 2012 كانت لافتة لجهة الذي ينصرف تسللا مثل الدكتور محمد البرادعي ومن دون أن يعتذر، والذي ينصرف محصنا ومعتذرا مثل الرئيس علي عبد الله صالح في انتظار أن يقرر الرئيس بشار أن الانصراف بالتي هي أمكن مع الاعتذار على نحو ما فعل الرئيس اليمني هو أكرم تسوية، خصوصا أن صيغة التسوية هنا عربية - دولية. لكن الأمر مرهون بمن يعتبر ويصغي إلى النصيحة.