مصر.. آلام الولادة من دون ميلاد!

TT

بعد أسبوع من اليوم يكون قد مر على تنازل الرئيس المصري السابق حسني مبارك عن السلطة عام كامل، إلا أن مصر ما زالت في حالة الولادة المتعسرة والمخاض الطويل، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بشكل المولود، أو حتى يتيقن ما إذا كانت آلام المخاض كلها ناتجة عن حمل كاذب!

يعتمد ذلك على خلفية المصري الذي تحدثه، وعلى موقفه من أحداث التاريخ الماضي، فحين تسأل عن طول الزمن الذي استمر فيه الوجع المصري، يجيبك أحدهم إنه طال لستين عاما، ملمحا إلى أن الوجع المصري قد بدأ مع ضباط يوليو، عند ما استولوا عنوة على السلطة عام 1952، وعندما تسأل آخر يحدثك عن أربعين سنة من الوجع، دامجا فترة الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك، وعند سؤال ثالث يقتصر على فترة الثلاثين عاما التي أمضاها مبارك في الحكم!

تشترك الإجابات الثلاث في خطأ واحد، هو وضع اللوم عن كل أوجاع مصر على (فرعون) واحد، في الوقت الذي يبتعد فيه كثير من المتابعين في الشارع المصري عن الأسباب الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع الموجع، إنه غياب فاضح للمؤسسات الحديثة بمعناها الضابط لإيقاع المجتمع.

وقد تستمر البكائية المصرية الساخنة إلى فترة زمنية قادمة، كما يتضح من الأحداث التي نشاهد، فإنشاء المؤسسات الحديثة لم يبدأ بعد، ولا أرى أنه قريب.

دليلي على ذلك هو الانتخابات الأخيرة، التي أفرزت نتائج واضحة المعالم، أساسها ضياع أو غياب المؤسسات، بدليل رفض قطاع من الشعب لنتائجها.

لنأخذ الحزب ذا الأغلبية البرلمانية، أو حتى الحزبين المسيطرين اليوم على المؤسسة البرلمانية المصرية بشكل كاسح: الحرية والعدالة، وحزب النور. الأول هو نتاج جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وهي مَن هي في تاريخ مصر، إلا أن قاعدتها الأساس مستندة على تفسير للنصوص التراثية حسب ما رآه مؤسسوها الأوائل طريقا لإدارة الدولة، لا يقترب بناؤها من التنظيم الحزبي الحديث.

لدينا وثيقتان، الأولى وثيقة عام 2007 التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين، وبعض نصوصها يتصور مركزا حاكما للحكم لرجال الدين، فيه لهم القدح المعلى، ولكن تلك النصوص هذبت في وثيقة الحرية والعدالة اللاحقة لثورة 25 يناير. ودون الدخول في محاكمة النيات فإن حزب الحرية والعدالة خرج من عباءة الجماعة، ولم تجر أي انتخابات لقيادات الحزب كما هي العادة الطبيعية في بناء هكذا مؤسسات، فقط تم تعيين القيادات من مجلس شورى الجماعة، كما اختلطت في وثائقه السياسية، الرؤية الدينية بالرؤية المدنية في الكثير من النصوص التي استندت عليها بيانات الحزب، كما أن الحزب لديه - خارج مؤسسات الدولة - ميليشيا خاصة (جماعة شبة عسكرية) وبعضها وقف حارسا لمبنى البرلمان الأسبوع الماضي!

ولم نعرف أيضا أن حزب النور قد أجرى انتخابات بين أعضائه من أجل فرز القيادات بينها بشكل مؤسسي وحديث.

كل ما تقدم معطوف على قاعدة قديمة لها من العمر أكثر من ثمانين عاما وهي الطاعة التامة (للقائد) في (المنشط والمكره)! من هنا فإن خلق (فرعون) جديد بثياب جديدة قيّم على الدولة، ممكن في مصر، ومقدماته ظاهرة للعيان، إلا أن هذه المرة، إن استولى (الفرعون الجديد) على مؤسسات الدولة - التي دائما تطيع جحافلها البيروقراطية الحاكم كيف كان توجهاته - فإن تداول السلطة في مصر يمكن أن يكون في خبر كان.

لنتصور اكتمال الشكل المؤسسي للدولة المصرية الجديدة قريبا، من انتخابات مجلس شورى إلى انتخابات رئيس الجمهورية، وكلتا المؤسستين لن تخرج عن الإطار العام للمثلين الحاليين في المجلس النيابي، مع خضوع كامل لمؤسسات الدولة (القضاء والضبط والربط والإعلام) للمكون الجديد، فيكون المجتمع المصري الجديد في قبضة شكل معين وفلسفة معينة في الحكم، لها تراثها الذي لا تستطيع الفكاك منه، بعضه مركزي وبعضه قمعي. فمطلب الحريات الحديثة ومطلب التعددية ومطلب المجتمع المدني الحديث، كلها ستكون ثانوية مع اختلاط الرؤية الدينية بالمشروع السياسي ومع الحضور الكثيف لنصوص معتمدة على الدين من الناحية الأخلاقية والسلوكية بحسب تفسيرات المؤسسين ومن تلاهم.

للمتابع - تتكون اليوم في مصر بذور شرعيتين؛ الأولى شرعية (الميدان) ويقصد بها ميدان التحرير بكل ما يحمل من معان وتبعات، وشرعية (البرلمان) التي هي تعادل شرعية (الإخوان) ولا يبدو أن هناك احتمالا أن يترك الثاني للأول هامشا سياسيا يتحرك فيه، مع اشتداد قبضة الثاني على مقدرات الدولة. وتعود مصر من جديد إلى بناء مؤسسات لها طابع الشمولية خارجة عن المأمول الثوري، أي مؤسسات شكلية بعيدة عما توقع ملايين من المصريين خرجوا منذ 25 يناير 2011 يطالبون بالحرية التي لا يمكن أن تتحقق دون بناء مؤسسات دولة واعتراف بتعددية سياسية، لا مؤسسات أحزاب، وتسمح تلك التعددية أن تكون الدولة خارج الحزب، فهو يأتي ويذهب وتبقى الدولة للجميع.

لقد عرف العرب قسوة وقبح تفريغ الدولة من المؤسسات، وتصبح الدولة في خدمة القلة ثم تقل القلة لتصبح شلة وتتحول في النهاية إلى أسرة، قد تكون هذه الأسرة لرئيس أو لمرشد، التسميات هنا ليست مهمة!

ما تقدم يصور لنا خطورة السكوت عن بناء المؤسسات الحديثة والفرح بكراسي البرلمان للبعض، والركون إلى أشكال هلامية من البناء الهيكلي السابق، مفرغة من محتواه الحديث المؤسسي، فالوجع المصري ليس نابعا لا من ستين أو أربعين أو ثلاثين عاما من أشخاص بعينهم، وإنما من ثقافة الركون إلى إفراغ المؤسسات وإلحاقها بالزعيم، أيا كان ذلك الزعيم، في تلك الحال سوف يستمر الوجع المصري، ولا ولادة بعد المخاض، ولن يكون ذلك فقط مقتصرا على مصر، بل العدوى سوف تصيب الجميع في الفضاء العربي الذي يتشكل اليوم من شرق الوطن الكبير إلى غربه.

آخر الكلام:

نشرت هنا الأسبوع الماضي مقالا عن (أم حسين مصابة بالاكتئاب في الكويت) وقصدت بها المواطن والمواطنة الذي يشكل الأغلبية الطيبة الصامتة، في بلاد اعتمدت على التكافل الاجتماعي، إلا أن ما انتقدته من تدني الخطاب تمثل سريعا في عدد من الممارسات المؤسفة، ونتائجة - إن لم تقدَّم حلول جذرية - سوف تبقى معنا!