ضعف المعارضة وقوتها!

TT

كثيرا ما يردد المعنيون بالوضع في سوريا كلاما عن ضعف المعارضة السورية، ويسوق البعض منهم أسبابا وعوامل باعتبارها بين ما يجعل المعارضة السورية ضعيفة، بل إنهم قد يتجاوزن ذلك إلى شروحات تفصيلية، تتعلق بالأسباب المباشرة وغير المباشرة لضعف المعارضة. وأغلب ما يردده المعنيون بالوضع السوري حول وصف المعارضة بالضعف صحيح، فهذه بين الحقائق السياسية التي تركها ميراث الخمسين عاما من حكم حزب البعث لسوريا ولا سيما منذ بداية السبعينات، حيث أخذت السياسات المعادية للمعارضة السياسية وللسياسة وشخصياتها اتجاهات جذرية هدفت ليس إلى إضعاف المعارضة فقط، بل إلى تغييبها وتدميرها طالما أمكن ذلك عبر مجموعة سياسات لا تطال المعارضة فحسب بل حواضنها الاجتماعية والثقافية.

إن ضعف المعارضة بتعبيراته الأساسية، يكمن في جملة مظاهر لعل الأهم فيها، يبدو في تمزق اتجاهاتها الفكرية والسياسية إلى تنظيمات وأحزاب متصارعة. وينقسم التيار القومي إلى أحزاب وجماعات بعضها موجود في صف النظام في إطار الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب البعث الحاكم، وبعضها الآخر موجود في المعارضة السورية، ومثل ذلك هو التيار اليساري الذي تتوزع أحزابه وتنظيماته في الاتجاهين، بعضها في جبهة النظام والبعض في المعارضة، ولئن اختلف الأمر بالنسبة للجماعات المنتمية للتيار الديني وللتيار الكردي، إذ هي موجودة في المعارضة حصرا فإنها تعاني من الانقسام والتشرذم على نحو ما هو عليه حال التنظيمات الأخرى، وكان الأمر على هذا النحو في حالة الحزب القومي السوري الاجتماعي والذي طالما عاش في المعارضة مقسما منذ بداية السبعينات بفعل تدخلات السلطة في شؤونه الداخلية، ثم جرى ضم أحد أجنحته إلى جبهة النظام قبل أعوام ليصبح كغيره مقسما وموزعا بين السلطة والمعارضة.

والمظهر الثاني في ضعف المعارضة، يكمن في غياب العناصر الشابة عن أحزابها وتنظيماتها، أو محدودية وجود هؤلاء، وأمر كهذا له أسبابه، لعل الأهم فيها تكثيف النظام جهوده لعزل الشباب عن الأحزاب والحياة السياسية، إضافة إلى غياب المحفزات التي تقدمها الأحزاب السياسية، التي تؤدي إلى جلب الشباب لصفوف الأحزاب والتنظيمات، وثمة سبب ثالث يمثله تمسك القيادات التاريخية بمناصبها ومواقعها القيادية مما يمنع التجديد في الأحزاب، وأهم تعبيرات التجديد دخول الشباب وحصولهم على مسؤوليات قيادية في الأحزاب.

وبين مظاهر ضعف المعارضة اتكاء أحزاب وتنظيمات الأخيرة على إرث فكري وسياسي فات أوانه، وهو إرث تقليدي يفتقد للحداثة والمعاصرة، بل إن آفاق تنمية ذلك الإرث وتطويره، تجد لها معارضة جذرية من القيادات التاريخية في الأحزاب على نحو ما حدث في الحزب الشيوعي السوري وفي حزب البعث وفي حزب الاتحاد الاشتراكي عدة مرات.

إن مظاهر ضعف المعارضة في جوهرها، ليست إلا نتيجة لسياسات النظام الحاكم وقد عمل على تشتيت المعارضة ومحاربة تنظيماتها، وعزلها عن حواضنها الاجتماعية والثقافية وتحويلها إلى تنظيمات معزولة ولا جماهير لها، وقد اتبع في ذلك سياسات المطاردة والقمع الشديد والاعتقال الطويل، ولم ينج حزب بما في ذلك حزب النظام من المراقبة والمتابعة، واعتقال أعضاء وقيادات فيه في حال بروز تمايزاتها الفكرية والسياسية عن مواقف النظام وسياساته، وإضافة لما سبق فقد تمت ممارسة سياسة العصا والجزرة ضد الأحزاب السياسية بدلا من سياسة المطاردة والقمع من أجل استئناس أحزاب وتنظيمات مختلفة وضمها إلى جبهة النظام، أو تم الإبقاء عليها خارج الجبهة كاحتياط سياسي للنظام الحاكم.

لقد خسرت سوريا بإضعاف المعارضة وأحزابها خسارة كبيرة. ذلك أن إضعاف المعارضة وتغييبها عن الحياة العامة، جعل تلك الحياة بعيدة عن السياسة وخاضعة للأجهزة الأمنية/ العسكرية. وخسارة الحياة العامة للسياسة، إنما كانت تعني غياب الصوت والعقل السياسيين، واللذين يمكن أن يضعا أمام سوريا خيارات في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، لا تفتح الأبواب نحو تطوير البلاد وتقدمها فقط، بل من شأنها أن تسمح بإيجاد حلول ومعالجات للمشكلات الطارئة بما فيها المشكلات الكبرى على نحو ما هي عليه الأزمة الراهنة، الأمر الذي يعني، أن إضعاف وضعف المعارضة له تأثيرات سلبية مركبة، لا تتعلق بالمعارضة فقط، بل بإضعاف المجتمع وإضعاف النظام نفسه، وهذا ما يفسر الحرص الذي تبديه الدول الديمقراطية على وجود واستمرار قوة المعارضة السياسية، وصولا إلى حرص بعضها على حضور المعارضة في إطار حكومات الظل على نحو ما يحصل في بريطانيا ودول أخرى.

إن ضعف المعارضة السورية في ظل الأزمة الأخيرة، جعل النظام يطلق العنان لنفسه في ممارسة سياسة العنف والقوة ضد الشعب، وشيئا فشيئا أخذ يغرق في مأزقه، ولو كانت المعارضة قوية لوضعت في وقت مبكر حدا لتلك السياسة، فجنبت الشعب ما لحق به، وخففت عن البلاد ما أصابها، وكانت خففت جرائم النظام وارتكاباته، وربما جعلته في المكان الذي يمكن التصالح معه، وإصلاح ما ارتكبه، بدل أن يصبح أساس الحل ذهاب النظام.

إن ضعف المعارضة، هو الذي أفسح المجال نحو أقلمة الأزمة السورية، لأن النظام لم يجد من يحد من طغيانه وجبروته، ويردعه عن تحويل الأزمة إلى أزمة إقليمية، تتدخل في علاجها دول الإقليم، وعندما تفشل تأخذ الأزمة لتصير أزمة دولية الطابع، مما يرشحها لشروط الحل العسكري وفق مقتضيات البند السابع في مجلس الأمن الدولي، إذا بقي النظام على تعنته ورفضه للحلول السياسية بما فيها ما يمكن أن تحمله المبادرات الدولية الممكنة أو المبادرة الإقليمية المدولة.

لقد جلب ضعف المعارضة تداعيات خطيرة على الأزمة في سوريا، وما لم تنهض المعارضة من ضعفها، فإن هذه التداعيات مستمرة، الأمر الذي يفرض على المعارضة الخروج من ضعفها، وهو أمر ممكن إذا توفرت الإرادة الكافية لدى أطراف المعارضة وقياداتها، خاصة أن العوامل السياسية الداعمة لتقوية المعارضة متوفرة في المستويين الداخلي والخارجي. ففي الداخل تتوفر توافقات سورية، تكاد تصل حد الإجماع فيما يتعلق بالمهمة الرئيسية الحالية وهي تغيير أو إسقاط النظام، أو فيما يتعلق بالهدف الذي يلي التغيير وهو إقامة دولة ديمقراطية مدنية تعددية، تقوم على العدالة والمشاركة والمساواة. كما تتوفر في مستوى الداخل قوة دفع شعبي يمثله الشارع من أجل خلق مواز سياسي وبديل للسلطة التي يطالب الشارع برحيلها، وفي المستوى الخارجي العربي والدولي، تتوالى الدعوات من أجل تعزيز المعارضة وتقويتها للقيام بدور تمثيلي يكون أقدر على تحمل المسؤولية في حال جرى تغيير النظام القائم.

إن معارضة سورية أقوى، تجنب سوريا الذهاب إلى الأسوأ، وهذه الحقيقة ليست من الماضي، بل إنها حقيقة حاضرة ومستقبلية. ذلك أن قوة المعارضة سوف تمنع ذهاب السوريين إلى حرب داخلية، ويمكن أن تمنع تدخلا عسكريا خارجيا، بل إنها يمكن أن تدير في الأقرب من ذلك عملية سياسية ضمن معادلات محلية وإقليمية ودولية، تجنب البلاد والشعب دفع فواتير أكبر في عملية التغيير الوطني الديمقراطي المنشودة.