اختلاس من علماني ومن إسلامي وفرنسي

TT

اشتهر البليهي عند الجمهور السعودي عندما قابله تركي الدخيل في برنامجه «إضاءات» وأطلق فكرتين استفزتا المحافظين وراقت لليبراليين.

الأولى مناسبة إطلاقها، هو سؤال تركي الدخيل له عما يقصده في استخداماته لكلمة التخلف، مع استحضار أن له كتابا عنوانه «بنية التخلف».

أجاب البليهي: «أعترض في البداية على وصفنا نحن العرب والمسلمين بالتخلف. فهذا الوصف وصف لا نستحقه. فالتخلف مرحلة تاريخية لم نصل إليها بعد. إن التخلف وصف يطلق على امرئ مشارك في سباق مع آخرين لكنه لم يستطع أن يلحق بالذين تقدموا عليه في مضمار الجري والسباق. والفرق بيننا وبين هذا المتخلف في السباق، أنه كان يركض وراءهم ويحاول اللحاق بهم، بينما نحن أصلا لم نبدأ في الركض. لذا فالأدق أن نوصف بالواقفين أو المتقهقرين أو أي وصف من هذا المستوى ومن هذه المرتبة».

سآتي لكم بمصدر هذه الفكرة.

في بحث شهير قدمه فؤاد زكريا (ضمن أعمال ندوة عقدت بالكويت سنة 1974، وطبعت أعمالها سنة 1975، وكان عنوانها «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي») عنوانه «التخلف الفكري وأبعاده الحضارية» استهل بحثه بالكلام الآتي:

«في إحدى اللمحات الذكية حدد توفيق الحكيم (جريدة «الأهرام» في 7-12-1973) معنى التخلف بأنه عدم القدرة على ملاحقة الركب بعد أن كانت القدرة متوافرة. وبهذا المعنى يكون المجتمع المتخلف - إذا التزمنا اشتقاق اللفظ - هو ذلك الذي كان مسايرا لموكب الحضارة يوما ما، ثم عجز لسبب أو لآخر عن الاستمرار في السير، فسبقه الموكب. وهذا يعني أن هناك فرقا بين التخلف والتأخر: فالتأخر سمة للمجتمع الذي لم يكن يوما ما في المقدمة، أما التخلف فهو سمة المجتمع الذي وصل إلى المقدمة وحمل مشعل التقدم في وقت مضى، ثم تباطأت مسيرته بعد ذلك أو توقفت».

من هذا التحديد الذي يلزم المعنى الأصلي للفظ، نستطيع أن نتخذ نقطة انطلاق في بحث موضوع التخلف الفكري وأبعاده الحضارية في العالم العربي، ذلك لأن التخلف مرتبط ارتباطا أساسيا بالبعد الزمني والعلاقة بين الماضي والحاضر، والعالم العربي يقدم إلينا مثلا بارزا تتوافر فيه كل مقومات التخلف بالمعنى الذي حددناه.. إذا كان يوما رائدا لحضارة زاهية، ثم توقفت مسيرته وأصبح الآن يتطلع إلى الوراء متحسرا على الأيام التي ولت، ولنذكر في هذا الصدد، أن هناك صلة اشتقاقية واضحة بين الخلف والتخلف وأن المتخلف ينظر دائما إلى الخلف.. إلخ.

يتضح من مقارنة النصين السابقين أن البليهي أخذ الفكرة من توفيق الحكيم ومن شرح فؤاد زكريا وتطويره لها، ولم يحسن تقديمها، بل جنى عليها وعلى شرحها وعلى تطويرها.

تحدثني نفسي أن شهادة فؤاد زكريا لفكرة الحكيم باللماحية والذكاء هي التي أغرت إبراهيم البليهي بالاستيلاء عليها!

البليهي - على ضوء الفكرة التي طرحها الحكيم وانطلق منها فؤاد زكريا - للتمييز بين التخلف والتأخر، أبدل الواقف أو المتقهقر بالمتأخر، وفاته بحسب الفذلكة اللغوية لفؤاد زكريا التي ذهب فيها إلى أن العالم العربي تنطبق عليه كلمة متخلف وليس كلمة متأخر، أن يرى فيها فذلكة غير دقيقة، ففعل «تخلف» وفعل «تأخر» يأتيان بالعربية في معنى واحد مترادف. والتأخر هي الكلمة الأقدم استخداما من رديفتها كلمة التخلف في الفكر العربي الحديث. وهي الكلمة التي استخدمها شكيب أرسلان في سؤاله النهضوي الذي انشغل به البليهي كثيرا، وأشغلنا به مرارا وتكرارا.

التخلف اصطلاح علمي سك في الغرب منذ الخمسينات، ومفردة التخلف هي ترجمة عربية للمصطلح الغربي. وكان الإسلاميون - في عقود خلت - لوعيهم بمعنى المصطلح ودلالته يتجنبون استخدامه ويميل بعضهم إلى استخدام كلمة التقهقر، فما الجديد في طرحها كبديل. كما أن كلمة المتقهقر التي يريد أن يضعها بديلا تطلق أيضا على من كان متقدما.

الفكرة الثانية، كان مناسبة إطلاقها، سؤال وجهه له تركي الدخيل في ذات اللقاء، مضمونه: «لماذا لا تتحدث عن الانهيار الأخلاقي في الغرب؟».

فرد مستنكرا: «أي انهيار أخلاقي؟! نحن أصلا مفهومنا للأخلاق مفهوم خاطئ، مفهوم جزئي. نحن دائما عندما نتحدث عن الأخلاق لا نتحدث إلا عن الجانب الجنسي فقط.. وهذا غلط.. الأخلاق ليست هي الجنس. وقد سبق لي أن أشرت إلى مثال يدل على خطأ هذا المعيار: عندما يدخل الإنسان قصرا فخما أنيقا كل ما فيه يبعث على الانبهار والروعة ثم لا يستلفت نظره فيه إلا صندوق الزبالة.. نحن عندما نذهب للغرب نركز على هذا الجانب الضعيف. لكن لو كانوا منهارين أخلاقيا.. الحضارة ليست هي الأخلاق.. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.. الغرب لم يذهب.. معنى هذا أن أخلاقهم عالية، الجانب الإنساني عندهم قوي ورائع إلى أبعد الحدود».

هذا المثال الذي ضربه مثال كسيح لا يخدم القضية التي يدافع عنها، فالإنسان الذي لا يستلفت نظره في قصر بتلك المواصفات إلا صندوق الزبالة، إما أن تكون مهنته زبالا وإما أن يكون القصر وضع في بهوه أو في إحدى ردهاته حاوية زبالة بحجم الحاويات الموضوعة في الشوارع.

لنذهب إلى أصل المثال.

في بحث لأبي الحسن الندوي عنوانه «الإسلاميات بين كتابات المستشرقين والباحثين المسلمين»، صادر في أوائل الثمانينات الميلادية، وبعد أن اعترف ببعض جهود المستشرقين العلمية والموضوعية تعرض لما سماه تصيد مواضع الضعف والعورات في كتابات كثير من المستشرقين فقال: «ورغم هذا الاعتراف بفضلهم وعلمهم لا يمنعني شيء في هذا المجلس الموقر من أن أصرح بأن طائفة كبيرة من المستشرقين كان دأبها البحث عن مواضع الضعف في الشريعة الإسلامية، والحضارة والتاريخ الإسلامي، وإبرازها لأجل غاية سياسية أو دينية، فكان شأنهم في ذلك شأن من لا يرى في مدينة ذات بهجة ونضارة، ونظام ونظافة، إلا مزابل ومراحيض ومستنقعات، كما هو دأب مفتش الأوساخ والمياه المصرفة (Drain inspector) في البلديات وأمانات العواصم، فيرفع بذلك تقريرا إلى الجهات المختصة، لا يجد فيه القارئ - بطبيعة الحال - إلا الحديث عن العفونات والأوساخ. فترى كثيرا من المستشرقين يركزون كل جهودهم ومساعيهم على تعريف مواضع الضعف في تاريخ الإسلام».

هذا التشبيه التقطه فهمي هويدي وصاغه في عنوان صحافي شهير هو «الباحثون في القمامة».. التقطه مستخدما إياه ليس إزاء اتجاه عند المستشرقين، كما فعل الندوي، وإنما إزاء اتجاه برز في المنتصف الأخير من الثمانينات الميلادية لدى مجموعة بعينها من المثقفين المصريين العلمانيين، إذ رأى أنهم - وذلك تعليقا على واقعة جرت له مع أحدهم - يتلذذون بالنبش في قمامة التراث الإسلامي. إن التشبيه الذي استخدمه صاحبه الأصلي، أبو الحسن الندوي، كما ترون، مفهوم ومتسق مع ما أراد أن يعبر عنه في دعواه ضد تحامل طائفة كبيرة من المستشرقين على شريعة الإسلام وحضارته وتاريخه.

كما أن التشبيه الذي التقطه فهمي هويدي - في ما بعد - من الندوي، ومن خلال السياق الذي أورده فيه، هو أيضا مفهوم ومتسق ويخدم الفكرة التي أراد أن يوصلها للقارئ.

في الحلقة ذاتها والتي صدع فيها: بأننا - نحن العرب والمسلمين - أصبحنا في بلاد العالم أضحوكة، وكنا أضحوكة لكن في السابق لم يكن يهتم بأمرنا أحد. أما الآن فالعالم يهتم بكوننا أضحوكة، لأننا صرنا نعلن لهم، أننا نبدع في قطع الرؤوس والقتل والتفجير. وهذا أقصى ما نبدع فيه..!

هو يقول هذا الهذر بصفته مطلعا على تاريخ العرب والمسلمين وعلى تاريخ بلدان العالم وعلى مشكلاته الكبرى، لذا طالب لإنهاء كوننا أضحوكة ولحل مشاكلنا، بالتفاهم مع الغرب وفق منطق العقل والإقناع، وضرب مثالا لذلك باليهود، فقال: «كان الغربيون يكرهون اليهود أشد من كرههم للمسلمين. ولكن أخذ اليهود بمنطق الإقناع والتأثير على القيادات وعلى الشعب واستخدام وسائل الإعلام، مكنهم أن يصبحوا هم المحظيين عند الغربيين. ما الذي جعل الغربيين يتغيرون كل هذا التغير تجاه اليهود؟ الذي جعلهم يتغيرون هو استخدام اليهود منطق العقل والإقناع».

ليتمعن المثقف المعاصر بالعلة التي جعلها سر كون اليهود - خلافا لما مضى من قرون - محظيين عند الغرب، ألا يرى أنها تنم عن أنه غير مطلع على المشكلة اليهودية، رغم أنها تمثل جانبا مهما في تاريخ الغرب؟! ذلك لأنه في الكتاب الإسلامي المعاصر لا يتوفر عرض وتحليل تاريخي موضوعي لها، ولا في كتابات الليبراليين الغربيين المترجمة إلى العربية بمصر في عهد جمال عبد الناصر والتي طفق يقرأها بعد قراءته للكتاب الإسلامي المعاصر. فالإسهام النظري الأساسي في عرض المشكلة اليهودية وتحليلها، قدمه ماركسيون يهود وغير يهود، وعرفه القارئ العربي عبر ترجمات كتب هؤلاء إلى العربية وعبر كتابات الماركسيين واليساريين العرب.

لقد قيل في عصر انقضى، ما معناه: من لم تكن الماركسية من ضمن عدته الثقافية، فهو ليس مثقفا معاصرا. قيل هذا في عصر الحرب الباردة. والبليهي سنا من أبناء هذا العصر. هذه عينة من النقص في ثقافة الذي وصفنا بأننا كنا وما زلنا أضحوكة الأمم.

يتحدث البليهي كثيرا أنه أول من دعا، أو صاحب فكرة، تأسيس علم الجهل، فهل هذا صحيح؟

كنت مرة أتحدث مع صديق مثقف عن الفكرتين اللتين اختلسهما البليهي في مقابلته التلفزيونية مع تركي الدخيل من بحث فؤاد زكريا وبحث أبي الحسن الندوي وأبهرتا واستفزتا كثيرين. فذكر لي، أن له سابقة في هذا، فعلم الجهل الذي يقول عن نفسه إنه صاحب الفكرة فيه، الفكرة مأخوذة من كتاب لمؤلف فرنسي، والكتاب مترجم إلى العربية ضمن سلسلة «زدني علما»، ثم زودني بالكتاب، وفضل عدم ذكر اسمه.

بدأت قصة البليهي مع علم الجهل بمقال كتبه في جريدة «الرياض» سنة 1993، تحت عنوان «أولوية تأسيس علم الجهل». والمقال من ضمن المقالات التي ضمها كتابه «بنية التخلف».

المقال كغيره من العديد من مقالاته، يتوقف عند أمور بسيطة وقضايا بدهية يعمل فيها فكره، مع إزجاء شيء من المواعظ والنصائح التربوية، ويتضمن استشهادات أربعة بكارل بوبر واستشهاد بقول واحد لبرتراند رسل وبثلاثة مقتطفات من كتاب «معايير الفكر العلمي» لجان فورآستيه. وزج معهم اسم الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد لا مستشهدا بقول من أقواله يتواخى مع استشهاداته ببوبر ورسل وفورآستيه، إنما بذكر اسم كتاب له، معللا عنوانه ورابطا هذا العنوان بالقضية التي يطالب هو بها: أولوية تأسيس علم الجهل.

يقول في هذا التعليل وهذا الربط: «إن تأخر تأسيس علم الجهل هو الذي أدى إلى شيوع ما سماه الدكتور الشيخ بكر أبو زيد (التعالم)، حيث أفرد كتابا يحمل عنوان (التعالم وأثره على الفكر والكتاب».

المطالع للكتاب من عنوانه، والملم بتآليف الشيخ الدينية، يعلم من أول وهلة أن تسمية التعالم الذي تضمنها العنوان في واد وموضوع تأسيس علم الجهل في واد آخر، وأن الشيخ بكر لا يمكن أن يقحم اسمه، لتأييد موضوع ما - ولا أظنه هو يسر بهذا - مع كارل بوبر وبرتراند رسل!

من المثير للانتباه في مقاله هذا أنه في استشهاداته بكارل بوبر واستشهاده ببرتراند رسل لم يعزها إلى مصادرها، بينما عزا استشهاداته بجان فورآستيه إلى مصدرها في كتابه «معايير الفكر العلمي».

ربما سبب هذا شغفه بالكتاب الذي حبل منه تلك المقالة. ويبدو أن هذا الشغف طال كثيرا بدليل مقالات كثيرة كتبها عن علم الجهل تناسلت من هذا الكتاب.

ويلاحظ أن المقتطفات التي استشهد بها من هذا الكتاب هي مقتطفات هامشية، ولا تقدم شيئا عن مضمونه أو - على الأقل - إشارة إلى أن الكتاب في فصليه الأولين تصدى للموضوع الذي تطرق له البليهي في مقالته.

سأورد عنوان الفصلين ومواضيعهما، وليقارن القارئ عنواني الفصلين ورؤوس مواضيعهما بما كتبه في مقالته المشار إليها، وفي مقالات له أخرى عن علم الجهل. عنوان الفصل الأول: «الجهل المبتذل أو الشائع»، مواضيعه هي: الوضع الحالي للجهل المبتذل، والجهل المتطور، والعواقب الاجتماعية والعلمية للجهل المبتذل.

عنوان الفصل الثاني: «الجهل العالم»، مواضيعه هي: الجهل الهامشي البسيط، وحاجة التركيبات وعدم كفايتها، والجهل والضلالات، ومسائل النهج والتوفيق، وقصير الأجل.. وطويل الأجل.

الكتاب صادر عن منشورات «عويدات» ضمن سلسلة «زدني علما»، وترجمه إلى العربية فايز كم نقش.