صورة العرس

TT

حقق الزميل العزيز مصطفى الجندي ريادات كثيرة، أهمها، أو أشهرها، تأسيس «المصارف»، أول مجلة من نوعها في لبنان، مع الزميل ذو الفقار قبيسي. الريادة الثانية كانت أنه من أوائل الذين انتقلوا إلى السكن خارج بيروت. وقد انتقى مجمعا سكنيا يتمتع بسائر أسباب الراحة وكافة أحكام الأمان: حراس وبوابون ونواطير ومضيفون يدققون في هوية الزوار، فإذا قلت إنك قادم لزيارة مصطفى بك، ارتفعت أصوات الترحيب وتم الاتصال بالمنزل، وأديت تحية الإذن بالدخول.

جاءت الحرب فغادر مصطفى لبنان مع من غادر، مطمئنا إلى أن المنزل في مجمع، والمجمع في حراسة، والحراسة بأمر البكوات. ولما عاد بعد سنوات وجد المنزل فارغا إلا من صورته مع عروسه. شعر في قلبه بتقدير شديد لـ«الحرامية» على ذوقهم وحنانهم، ثم جاءه الحراس والنواطير والمضيفون الذين يدققون في هوية الزائرين، يرجونه أن يتقدم بشكوى إلى الدرك. وراح مصطفى «يحسبها»: أولا الحرس، ثانيا النواطير، ثالثا البوابون، رابعا ساقي الحديقة، ثم خامسا ثم... وفي نهاية الجمع توصل إلى أنه من الأفضل له أن يبقى مسروقا، خصوصا أن صورة العرس إلى جانب أم آدم سليمة محفوظة.

بعد سنوات، قرر آدم، وهو مهندس مدني، العمل في بيروت، فوصل إليها ومعه عروسه. واقترح مصطفى أن يعيد فرش البيت؛ لأن أم آدم زرعت في نفس ابنها حب الأرياف. وأشرف مصطفى بنفسه على تجهيز المنزل، من أفضل المحلات الإيطالية. ولما اكتمل العفش والنفش والأثاث، تنبه إلى أن صورة عرسه لا تزال هناك، فوضعها في صدر المكتبة لكي لا يشعر ابنه بالحنين.

عمل آدم طوال عامين في بيروت. وتمتع بالمشي في حديقة المنزل. وتذكر ما كان يحدّثه به والده عن «دفء» اللبنانيين وحسن معشرهم. كيفما ذهب تُلقى عليه التحيات. البوابون يسألونه كل يوم عن الوالد. الحرس يشعرونه بالتواضع فيسألون عن مصطفى بك. أما «المدير» أو المضيف العام وحامل أختام المجمع، فكان أكثر تحببا وتقربا: «كيف حبيبنا أبو آدم؟ ليش معلي (من علاء) شوفتو علينا؟».

بعد عامين عاد آدم إلى عمله في بريطانيا وريفها الجميل. وبقي رائد السكن في الضواحي، أي عزيزنا مصطفى، مطمئنا إلى أن حول المنزل حرسا وبوابين ومديرين وحدائقيا يسقي العشب. ثم خطر له قبل أسبوعين أن يقوم بجولة تفقدية. ووجد - لفرحته – أن شيئا لم يتغير: صورة العرس في مكانها وكل شيء آخر مفقود. وقد عرض عليه الحرس والبوابون والسقا والمدير أن يتقدم بشكوى. و«حسبها» بدقة. واكتشف أنه سوف يكون أغنى من دونها.

هذه المرة حمل صورة العرس معه.