السلفية في تونس: امتحان للجميع.. والحداثيون أول المعنيين

TT

حصلت في المدة الأخيرة تجاذبات عدة بين الائتلاف الحاكم في تونس اليوم والمعارضة وشخصيات مدنية وإعلامية وثقافية. مرد هذه التجاذبات القوية، في صلة وطيدة بما اعتبرته أحزاب المعارضة وغيرها من مكونات المجتمع المدني موقفا ضعيفا وسلبيا للحكومة إزاء مظاهر التطرف الديني والاعتداء على الحريات وممارسة أطراف للعنف ضد إعلاميين ومثقفين، قاسمهم المشترك الدفاع عن الحداثة والحريات وتونس المنفتحة.

ويمكن القول: إن ما عرف بأحداث جامعة منوبة قد شكل الامتحان الدقيق الذي لم تلتقط حكومة السيد حمادي الجبالي دلالته كما يجب، في حين أن أصواتا من المعارضة ومن الحقوقيين والإعلاميين والأساتذة ظلت تنادي بضرورة اتخاذ موقف صريح ومباشر من قضية النقاب في الفضاءات الجامعية والشباب السلفي المعتصم في داخل الجامعة. وأمام تباطؤ حكومة «النهضة» في الاستجابة لهذا النداء تكونت جبهة قوية للدفاع عن الحريات، خصوصا أن الاعتداءات على بعض رموز هذه الجبهة تتالت في شكل بدا للكثيرين وكأنه منظم.

وفي الحقيقة السؤال الذي يلح علينا هو: لماذا بدا موقف الحكومة من المسائل المشار إليها أقل بكثير من المستوى المطلوب، لا سيما أن هذا الموقف من وجهة نظر الحسابات السياسية مفتوح على بعض الخسائر المهمة؟

إن فهم التجاذبات التي دارت بين الطرف الحاكم وبقية أطراف المجتمع المدني والإعلامي يستدعي إيضاح نقطة جوهرية تتمثل في أن الطرف القادح لهذه التجاذبات هو عناصر منتمية إلى السلفية الجهادية في تونس، وهي فئة آيديولوجية ذات ولاء لمرجعيات من خارج المرجعية الدينية التونسية، ناهيك عن أن من خصائصها الاعتقاد في امتلاكها للحقيقة وأنها تنطق بالحق وأيضا احتكامها إلى العنف آلية لفرض الرأي ومحاربة الرأي المخالف.

وبالتعرف إلى هوية الطرف الذي خلق حالة من القلق إزاء مستقبل الحرية الوليدة في تونس، إضافة إلى الفهم والممارسة الراديكاليين للدين، ربما نستطيع أن نفهم أسباب ارتباك «النهضة» وتهربها، على الرغم من حملة الدعوات إلى تبيان موقفها بكل صراحة من السلفيين الجهاديين الذين يبدو أنهم قد مروا إلى مرحلة الإعلان عن الوجود والحق في الوجود.

فالواضح أن حركة النهضة لا تريد خوض معركة مع السلفيين ولا أن تبدأ حكمها السياسي بإقصاء هذا الطرف على الرغم من الاختلاف بينهما.

ومن الظاهر أيضا أن خصوم «النهضة» في الداخل التقطوا هذه النقطة؛ لذلك كانت الاستراتيجية الضغط على «النهضة» من أجل إشهار رفضها لممارسات هذه الفئة طولا وعرضا. ومن ثمة، فإن السلفية في تونس قد أضحت في وجه من وجوهها ورقة مزايدة سياسية ضد الترويكا الحاكمة.

إلا أن هروب حركة النهضة من هذه المعركة ليس أكثر من تأجيل لمعركة يبدو أنه لا بد منها في كل الحالات؛ لأن التيار في تنامٍ وبصدد استثمار حقائق اقتصادية واجتماعية لتدعيم رصيده الديموغرافي من الشباب.

وأغلب الظن أنهم لن يفوتوا حدث كتابة دستور تونس الجديد دون تشويش قد يكون غير محمود العواقب. فلا ننسى أن هذه الفئة لا تقبل غير التطبيق الشمولي للشريعة الإسلامية وأنها تعتقد أن صوتها صوت الحق وما تقوم به جهاد في سبيل الله والإسلام.

لذلك فإن معالجة هذه القضية في ضوء التكاتف القسري لمختلف الأطراف ستجعل من المعركة معركة الجميع وليست معركة «النهضة» فقط، بل إن هذا الموضوع يمكن أن يكون موضوع وفاق وطني ونقطة مفصلية لبناء توافقات وطنية أخرى.

طبعا لا شك في أن اعتماد الجماعة السلفية على العنف من المؤشرات التي تستدعي تقليب أي خطوة وإمعان النظر فيها، لكن مثل هذه المسألة وغيرها، خصوصا الاستفادة من دروس الماضي، كلها ربما تدفعنا إلى الرهان على أدوات تخدم خيار الديمقراطية، ونقصد بذلك خيار الحوار. نعم الحوار يمكن أن يكون مرحلة من مراحل التعامل مع هذه القضية حتى لو كانت هذه الفئة غير مؤمنة بالديمقراطية والحوار؛ فالعقل يفرض علينا تغليب القيم التي نؤمن بها على القيم التي يؤمنون بها.

وإذا استسلمنا سريعا إلى أسلوب الإقصاء وعدم الاستماع إليهم والتحاور معهم، فإننا نكون بصدد تكرار أخطاء ماضية لم تكن سوى حلول ظرفية وعابرة.

وليس من مصلحة أحد أن تبقى السلفية منغلقة على نفسها كمرض معد دون إشراك المنتمين إليها في الحوارات والملفات التلفزيونية التي تتحدث عنهم كي يعرف المجتمع أفكارهم ويتعرفوا هم، من خلال الحوار، على محدوديتهم، ومن ثمة تقع مواجهتهم فكريا واجتماعيا قبل المرور إلى أي مرحلة أخرى لن تكون في مصلحة التونسي والاقتصاد والسياحة، وغير ذلك من المجالات المنهكة حاليا.

لقد حارب بورقيبة والرئيس الأسبق بن علي حركة النهضة التي كان ينظر إليها، من طرفهما وغيرهما، مثلما ننظر نحن اليوم إلى السلفيين الجهاديين، وأثبت التاريخ أن الخيار الأمني لا يقدم سوى المسكنات السياسية.

لذلك فإن هؤلاء السلفيين يمثلون بالنسبة إلينا امتحانا على ضوئه نقيس استعدادنا للحوار وكم نحن ديمقراطيون. ونعتقد أن أحداث بئر علي بن خليفة في محافظة صفاقس الأخيرة التي استوجبت مواجهة أمنية، تحتم على الجميع الرهان على الحوار قبل أن تتفاقم الظاهرة.