عملية اغتيال رئيس سابق؟!

TT

يقف الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك أمام ثلاث محاكم تحاسبه على ما فعل أثناء عمله على مدى ستة وثلاثين عاما كنائب لرئيس الجمهورية لست سنوات، ثم رئيسا لمصر لثلاثة عقود: المحكمة الأولى قضائية تجري تحت أنظار من شاء النظر، وفيها قدمت ثلاثة اتهامات بقتل المتظاهرين، وبيع الغاز المصري لإسرائيل بأثمان بخسة، والتربح من عمله. والثانية سياسية تجري كل يوم على صفحات الصحف ومحطات التلفزيون، ويقوم بها المتظاهرون مع أحزاب سياسية وشخصيات عامة، وكلها تتهم الرجل بالبقاء في السلطة طويلا، والفساد الشخصي والعام، وتراجع دور مصر الإقليمي، والمسؤولية عن الاستبداد والطغيان والفقر. والثالثة تاريخية وهي، في العادة، طويلة المدى تأخذ وقتا يقلب فيها التاريخ أوراقه بحثا عن الحقيقة، آخذا في الاعتبار ظروف الزمن واعتبارات أخرى كثيرة. وعرف التاريخ المصري شخصيات كثيرة أعاد لها التاريخ اعتبارها، وبعد أن كان أحمد عرابي مسؤولا عن «هوجة عرابي» الآثمة التي أدت إلى الاحتلال الإنجليزي للبلاد، فإنه صار ثائرا وبطلا قوميا. أنور السادات جرى له ما جرى لعرابي حينما تم اغتياله ماديا ومعنويا بعد اتهامه بالاستسلام لإسرائيل، وبعد ذلك أعيد له الاعتبار من أغلبية من انتقدوه، بما فيهم من قاموا باغتياله، واعترفوا به كرجل استراتيجي وسياسي من الطراز الأول، نجح في تحرير البلاد ووضعها على أول طريق التقدم.

لن يعرف أحد الآن ماذا سوف يكون الحكم القضائي على حسني مبارك، كما لن يعرف أحد حكم التاريخ عليه، أما الحكم السياسي فقد صدر بالفعل بالإدانة كما هو الحال في كل ثورة ثار فيها الشعب على حاكمه. وضمن هذا الإطار، فإن القضاة ليسوا فقط المعلقين السياسيين في الفضائيات التلفزيونية أو كتّاب الأعمدة؛ وإنما يقف معهم وربما على رأسهم تلك الطائفة المسماة بالمحللين السياسيين والمفكرين ممن تلتف حولهم طوائف من الأتباع الذين يأخذون بالمحلل على طريقة الطرق الصوفية، باعتباره واحدا ممن سبغ عليهم قدرات خاصة ومواهب لا حصر لها.

وبعد عام من الثورة المصرية، بدأت هذه النوعية الأخيرة من الكتب في الظهور، وهي في مجموعها سلبية عن الرجل، فقائمة الجرائم طويلة من أول البقاء في السلطة لفترة طويلة، إلى التوريث والتربح، وإذا كان الكاتب موضوعيا ومحايدا فإنه سوف يترك صفحة أو صفحتين في كتاب كبير لإنجازات الرجل. وللحق، فإن كثيرا من هذه الكتب بالغ الأهمية من الناحية التاريخية، فهو يوفر سجلا للوقائع والأحداث والشهادات على ما جرى، ويحفظ بعضا من الوثائق المهمة. ولكن كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان»، الذي تنشر صحيفة «الشروق» الغراء فصولا منه، سوف يقف وحده في محاولة لاغتيال رئيس سابق وهو يمثل أمام القضاء وعلى سرير المرض عاريا من كل قوة، وخاليا من كل قدرة على الرد، بينما الجماهير تخرج في مليونياتها الأسبوعية تطالب بمحاكمة ثورية للرئيس، يصدر فيها حكم الإعدام أولا، وبعدها تبدأ المحاكمة للتأكيد على «عدالة» الحكم.

هيكل وفر على الجميع الوقت والجهد، وقرر اغتيال الرئيس السابق حتى ولو عاد من الانصراف الذي استأذن جماهيره ومحبيه ومريديه الخروج إليه منذ سنوات عدة. ولكنه عاد على أية حال، لأن الفرصة كانت مغرية حتى ولو لم تكن المعلومات التي لديه من الغزارة بحيث يتم الاغتيال على الطريقة التي تم بها مع الرئيس السادات في كتاب «خريف الغضب»؛ فقد كان بعض من المعلومات كافيا لكي يتم نسج صورة للرئيس السابق رغم عدم اتساقها، إلا أن «كاتم الصوت» الموجود لدى الأستاذ هيكل من لغة وقدرة يستطيع أن يغطيها. ولعل مؤلفنا الكبير كان يعرف ما سوف يلي من تناقضات، ومن ثم حذر قراءه بأنه سوف يقدم كتابا ليس على الطريقة الواقعية الطبيعية لليوناردو دافنشي، وإنما لوحة تعبيرية قد تتوه فيها التفاصيل والحقائق، ولكنها مثيرة وخلابة في النهاية، كما نجد لدى بيكاسو أو مونيه.

الصورة التي تأتينا لمبارك هي «البقرة الضاحكة» التي يعود لها هيكل من وقت لآخر، ولكن صورة البلاهة تستقر مع التكرار، ولن يمضى وقت كبير حتى نعلم أن الرئيس السابق كان ضالعا في عملية اغتيال رئيس الطائفة المهدية في السودان من خلال سلة بها حبات من المانجو. الضلوع هنا بالإشارة في القصة، كما هو الحال في كل القصص، ليس كاملا، ولن تعرف أبدا كيف انتقل رجل من القاعدة الجوية إلى الأعمال المخابراتية، إذا كانت هناك واحدة من الأصل، ولكن الرجل «الضاحك» يظهر في النهاية إرهابيا قاسيا. وكما هي العادة، فإن كاتبنا ثري بالمعلومات، وهي في أغلبها عن نفسه، وكلها مع رؤساء دول وعظماء أمم قالوا له وقال لهم، وهي تدور وسط وجبات عشاء وإفطار، وهي ممتعة في جمل أخاذة، ولكنها الإطار العام الذي يظهر فيه فجأة رئيس المخابرات الفرنسية دي مارنشيه الذي يخص هيكل وحده بقصة نادي السفاري الذي أنشأه لكي يحمي مصالح فرنسية في أفريقيا والشرق الأوسط بالتنسيق مع الولايات المتحدة وبالتالي إسرائيل بحكم منطق الأشياء، ولكنها تلقى هوى من دول كثيرة عربية وإيران أيضا. هنا، يظهر حسني مبارك ممثلا لمصر، فيصير فجأة رجلا من رجال المخابرات الخطيرين الذين يخططون أو يشاركون في التخطيط لمصير مناطق بأكملها. بالطبع، لن تعرف أبدا كيف انتهت القصة، وعما إذا كان لمبارك دور جوهري فيها أم لا، وماذا كانت رؤية مصر للقضية كلها، وهل كانت هناك أندية أخرى جرى إنشاؤها للدول المعتدلة في المنطقة، أو غيرها من تجمعات المخابرات.

التفاصيل دائما غير مهمة حتى ولو كان الشيطان كامنا فيها، وفي عمليات الاغتيال المعنوي فإن المعلومات لا تلقى إلا بحساب، لأن مبارك الإرهابي الضالع في العمليات المخابراتية سوف يظهر فجأة بحيث لا يزيد على حامل حقيبة رسائل من الرئيس السادات إلى الملك حسين، لا يعرف كيف يشرحها أو يفك طلاسمها. كل ذلك وما زلنا في الفصل السادس من الكتاب، الذي لم ترد فيه كلمة واحدة حتى الآن عن إنقاذ بلد تم اغتيال رئيسها، ولا استكمال تحرير أرض جرى احتلالها في عهد عبد الناصر، ولا تحرير طابا دون نزيف نقطة دم مصرية إضافية، ولا إنشاء 23 مدينة، ولا زيادة عمر المصريين 15 سنة، ولا إنشاء مكتبة الإسكندرية، ولا أمور أخرى كثيرة تحتاج إلى تسجيل وتحرير.

وحتى لا يسيء أحد الفهم، فإن مبارك يستحق بالفعل المحاكمة وهي تجري الآن. وما لم يرد أمام القضاء فقد كان استمراره في الحكم 30 عاما، واستسلامه لدساتير ثورة يوليو وما جاء فيها من استبداد، وما أضاعه من فرص تقدم مصر لتأخذ مكانتها بين البلاد. كل ذلك أمر، ووضع ذلك ضمن سياقه التاريخي أمر آخر، وبالتأكيد فإن الاغتيال ليس من شيم الفرسان.