هل يمكن تفكيك المؤسسة العسكرية في مصر؟

TT

المشاهد الآتية من مصر لا تعبر إلا عن حالة فوضى وانفلات أمني، فمباراة كرة قدم تحولت إلى معركة دامية لأسباب غير منطقية، ولم تتوقف الأحداث بل امتدت رحى المواجهات ما بين المتظاهرين من جهة والشرطة وقوات الجيش من جهة أخرى لتشعل ليل الميادين الرئيسية في العاصمة. من المفترض أن تكون مصر بعد عام على رحيل الرئيس السابق حسني مبارك قد تجاوزت المرحلة الانتقالية، فهناك مجلس عسكري حاكم، وحكومة تشكلت مرات عدة وفقا لمزاج الشارع، وبعد كل هذا تم انتخاب البرلمان المصري، وأبواب مجلس الشورى والترشح للرئاسة قد فتحت، فلماذا تستمر الفوضى العبثية في الشارع؟

هناك إجابات متعددة، فالجيش يتهم عناصر أجنبية وداخلية ممولة من الخارج، ويتوعد في كل خطاب بملاحقتهم، ولكن يبدو أنه لا جدوى من ذلك، إذ إن محاولة محاكمة عدد من الناشطين المصريين والأجانب المتعاونين مع مؤسسات وهيئات أجنبية تواجه صعوبات مع الضغوط الأميركية والأوروبية التي تحذر الجيش المصري من استخدام المحاكم العسكرية لإدانة المتهمين. الإعلام المصري من جانب آخر يقدم إجابات أقرب إلى عالم الفنتازيا والغيبيات في محاولة لتصوير الأزمة وكأنها من صنع فلول النظام السابق مع أن كبار رموزه قابعون في السجن لا حول لهم ولا قوة، وأما من هم أقل أهمية فقد غيروا ولاءهم باتجاه الثورة كما فعل الإعلام المصري ذاته الذي لا يزال قطاع كبير منه يعتمد بشكل - أو بآخر - على النظام الحاكم أيا كان.

حقيقة الأمر أن المجلس العسكري المصري مع كل النوايا الحسنة غير قادر على إعادة النظام واسترداد هيبة الحكم والقانون، بعد أن شارك هو بنفسه بالحياد أمام المظاهرات التي تحدت شرعية الدولة، ولهذا فإنه غير قادر الآن على لجم الغضب والحنق في الشارع. طبعا، لا بد من القول إن المجلس العسكري قد قام بدور كبير وجليل خلال المرحلة الماضية، وبذل جهودا صادقة لاستعادة النشاط الاقتصادي وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن الشارع الذي تملأه المظاهرات الصاخبة كل أسبوع يريد البعض فيه الإطاحة بالعسكر، وهؤلاء يعتبرون أن المجلس العسكري يمثل امتدادا للنظام المصري منذ ثورة 1952، وعليه فإن الثورة لن تتم إلا حين يسلم العسكر الحكم إلى المدنيين.

لا شك أن سيناريو تسليم العسكر للسلطة إلى المدنيين - كما يطالب بذلك بعض المتظاهرين - أمر غير منطقي أو عملي في المرحلة الراهنة، إذ إن دستور البلد معلّق، وهناك خطة انتقالية قطع فيها شوط كبير وحظيت بتوافق عريض بين الأحزاب والقوى السياسية. بيد أن المتظاهرين الذين استمروا في النزول إلى التحرير لا يهمهم كثيرا آليات انتقال السلطة، ولا الصعوبات التشريعية أو الاقتصادية أو حتى الأمنية المرتبطة بانتقال السلطة. حتى لو افترضنا استعداد العسكر لتسليم السلطة الفوري إلى المدنيين، فإلى من؟ وبأي صفة شرعية يسلمون المسؤولية عن 82 مليون إنسان؟

الذين يتظاهرون ضد المجلس العسكري يريدون رحيل العسكر عن السلطة، أو الحيلولة - على الأقل - دون أن يتمكن العسكر من ضمان امتيازاتهم وحصانتهم القانونية بالتراضي مع الحكام الجدد مثل جماعة الإخوان. هذا مطلب مشروع، فالجيوش وظيفتها الدفاع عن سيادة الدولة ضد التهديدات الخارجية وليس إدارة الحكومة، وتشغيل المصانع، وتحديد صرف العملة، ولكن ما لا يدركه البعض أن المسألة ليست سهلة، بل يمكن القول إن إخراج مصر من العسكر أسهل من إخراج العسكر من حكم مصر.

لأكثر من ستة عقود حكم خلالها العسكر مصر بدقيقها وجليلها فإنهم قد تجذروا، والتصقوا بكافة مؤسساتها، بل يمكن القول إن العسكر كانوا وراء إنشاء أغلب المؤسسات الحكومية الحديثة والشركات والمشروعات في نظام إنتاج مركزي منذ الخمسينات، وحتى حين جاء عهد الانفتاح الاقتصادي والسياسي زمن السادات، فإن الجيش قد اقتطع لنفسه نصيب الأسد من الكعكة الاقتصادية إلى جوار القطاع الخاص. أي بعبارة أخرى، فإن اقتصاد الجيش والمؤسسات والمشروعات المرتبطة به تمثل حصة كبيرة من الناتج القومي الإجمالي، ومن النشاط الاقتصادي بصفة عامة، ولعل هذا ما يفسر ضعف عائدات الضرائب لأن القوات المسلحة غير ملزمة بالدفع، ولا تخضع موازنتها للتدقيق والمراجعة.

بالأرقام، تبلغ ميزانية الجيش المصري بحسب مجلة «جينز» الدفاعية ما يقارب 5 مليارات دولار، يضاف إلى ذلك 1.3 مليار دولار على هيئة مساعدات أميركية عسكرية، مما يجعل مصر العاشرة على مستوى حجم القوات المسلحة الفاعلة، وإذا ما قارنا موازنة الدفاع بموازنة الدولة، فإن مصر تنفق على الدفاع - من حيث النسبة - ما يوازي إنفاق الصين التي تمتلك مصانع أسلحة متطورة ومنشآت نووية كبيرة.

بعض التقديرات تشير إلى أن الموازنة الفعلية للجيش قد تتجاوز حاجز 10 - 14 مليار دولار سنويا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حجم الدورة الاقتصادية للجيش نفسه كما يقول البروفيسور بول سوليفان من جامعة جورجتاون، أي إن حجم إنتاج المؤسسة العسكرية يتراوح ما بين 10 إلى 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر (مجلة «تايم»، 9 فبراير 2011 ).

وفي تقرير نشرته مجلة المجلة (19 يناير/ كانون الثاني 1988) عن «الصناعة الحربية في مصر»، فإن الإنفاق العسكري المصري تضاعف في أوائل السبعينيات حتى تحولت مصر بحدود 1986 إلى سابع مصدر للسلاح الرخيص في العالم، ولكن بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد وتحول مصر إلى استيراد السلاح الأميركي الأكثر جودة، فإن النشاط الاقتصادي العسكري تحول مع الوقت إلى قطاعات صناعية مدنية لتأمين إيرادات للموازنة العسكرية غير مرتبطة بالدولة. بمرور الوقت أصبحت القوات المسلحة المصرية تمتلك مصانع أغذية، وزيت طعام وعصائر، ومؤسسات عملاقة للبناء، وأخرى تنتج المنسوجات والأدوات الكهربائية، بل إن المصانع العسكرية قد بدأت منذ الثمانينات في مشروعات مشتركة مع مصانع مركبات أجنبية لإنتاج السيارات، ولديها محطات غاز، ومصانع إسمنت، وغيرها. وإذا أردت دليلا على حجم الاقتصاد الذي تديره المؤسسة العسكرية في مصر، فإن العسكر قد عرضوا في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إقراض الحكومة المصرية قرابة مليار دولار، مما يعني أن المؤسسة وحدها تمتلك احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي غير معلن عنها («نيويورك تايمز»، 28 ديسمبر 2011).

في كتابه الذائع الصيت، «أكبر من أن تفشل: داخل معركة إنقاذ وول ستريت»، يشرح آندرو سوركن (2010) أن بعض المؤسسات الاقتصادية تصبح بمرور الوقت كبيرة للغاية، ومتجذرة في السوق الاقتصادية، ومرتبطة بالدخل اليومي لملايين المواطنين، بحيث أن فشلها - أو محاولة تفكيكها لإنقاذ الجزء الرابح منها - قد يؤثر على الاقتصاد برمته. في تلك الحالة تجد الحكومة نفسها في مأزق، فإما أن تتركها لتنهار كنتيجة لتعثرها مما قد يكلف الاقتصاد كثيرا، أو أن تلجأ لمساعدتها من أموال دافعي الضرائب، مما يثير حنق المواطنين الأقل دخلا لرؤيتهم مديري المؤسسات المتعثرة يجنون الأرباح الفلكية، في حين يفقدون هم وظائفهم.

في مصر، المؤسسة العسكرية بكل امتداداتها الصناعية والعسكرية هي بمثابة وول ستريت، إذا ما قرر المصريون معاقبتها فإنهم يقامرون بمستقبل مصر الاقتصادي والأمني، وإذا ما تركوها لتستمر فإنها ستظل فيلا محبوسا في غرفة الاقتصاد المصري الصغيرة. ليس هناك من خيار سهل، ولكن الأكيد أن ما تم بناؤه خلال ستين عاما لا ينبغي هدمه في لحظة، فالإصلاح الاقتصادي - كما السياسي - لا يتم إلا بالتدريج، ووفقا لبرنامج واضح ومحدد المعالم. إذا أراد ثوار التحرير طرد العسكر، فليقاطعوا منتجاتهم من الرغيف إلى السيارة، وحتى لو تمكنوا من ذلك، فإن تفكيك المؤسسة العسكرية بشركاتها ومشروعاتها، بل وبأملاكها التجارية واحتياطياتها من النقد الأجنبي قد يستغرق عقودا.

لقد قبل الثوار أن يكون «الجيش والشعب إيد واحدة»، فلماذا يختلفون الآن في فاتورة الحساب.