ورحل فارس الصحافة المصرية

TT

أصعب ما في الوجود أن ترى الأحباب والأصدقاء يذهبون عن دنيانا ونحن عاجزون عن فعل شيء! نشيع صديقا وننعى حبيبا غيبه الموت ولم يترك لنا سوى ذكريات تتصارع داخلنا وتجعلنا نعجب! أكل هذه النعمة كنا نتمتع بها ونحن لا ندرى؟! صحبة الأحباب والأصدقاء.. اللقاءات.. الحوارات.. المعايشة للأفراح والأحزان.. وستظل الحقيقة الأبدية وهي أن الإنسان سيظل لا يعرف قيمة ما منحته له الحياة إلا بعد فقده وللأبد..

رحل لبيب السباعي، الفارس النبيل، بعد أن أفنى عمره راهبا في محراب صاحبة الجلالة.. بدأ من تحت الصفر، وعرفته وهو رئيس تحرير مجلة «الشباب»، وظل يعتلي أكبر المناصب الصحافية حتى كلف رئاسة مجلس إدارة مؤسسة «الأهرام»، وذلك قبل إحالته إلى التقاعد بأشهر قليلة، وكان أول ما فعله أن تنازل عن مستحقات مالية ومميزات أخرى لهذا المنصب، وذلك إحساسا منه بما تمر به المؤسسة العملاقة من ضائقة مالية، وضحى بملايين الجنيهات التي يجلبها هذا المنصب عادة لصاحبه.

كانت «الأهرام» هي كل حياته، بدأ العمل بها محررا في قسم الأخبار، وظل يتدرج في العمل حتى قيل عنه إنه يعرف كل حجرات ودهاليز المبنى العتيق وعرف كل العاملين به بالاسم؛ يقابل كل الناس بابتسامة لا تفارق وجهه، ويعامل الجميع بأدب جم. وفى أواخر أيامه - رحمه الله - اختير أمينا عاما للمجلس الأعلى للصحافة ثم عضوا بالمجلس الاستشاري. ونظرا لتلاحق هذه المناصب عليه في أيامه الأخيرة، وجدته يرفع سماعة التليفون ويقول إنه حزين من كلام الناس، لأن البعض يقول إنه لم يتبق للبيب السباعي سوى أن يصبح الرئيس المحتمل لرئاسة الجمهورية.

وقد تحدثنا عن ضريبة النجاح وأن السائد اليوم هو الحقد والضغينة وكره النجاح وتدمير الناجحين.

كان - رحمه الله - مهتما بقضايا التعليم في مصر ويرى أنه لا صلاح لمصر ما دام حال التعليم بها متدنيا، بعدما كانت مصر منارة للعلم والتعليم وبلد يصدر ثقافته للعالم كله! وظل يكتب في قضايا التعليم والبحث العلمي حتى إنه خسر الكثير من الأصدقاء الذين كانوا في مواقع المسؤولية بوزارتي التعليم والبحث العلمي ولم يتقبلوا نقده، أما هو - رحمه الله - فكان على قناعة وثقة بأن الصديق لا بد أن يقبل النقد، خاصة أنه يصب في المصلحة العامة ولا يقصد منه الهدم وإنما البناء.

كنا نلتقي عبر رسائل تليفونية تحمل النكتة والضحك البريء، ونتقابل أسبوعيا في صالون ثقافي يجمع المثقفين والمفكرين.

وما زلت أحمل ذكريات وصور رحلتنا معا إلى نيويورك وبصحبة الكاتب الكبير صلاح منتصر، وهناك توطدت أواصر الصداقة والمحبة بيننا.

لقد جاء الموت قاسيا دون مقدمات، وسبحان مسبب الأسباب! نزلة برد عادية أدخلته المستشفى! وبكيت للطبيب لكي يسمح لي برؤيته دون جدوى سوى أنه سمح لي بأن أقف عند باب الحجرة ونظرت إلى الفارس النبيل فلم أصدق أن ذلك هو الوداع الأخير.. رحم الله لبيب السباعي وألهم أسرته وكل محبيه الصبر والسلوان.