حياة مع الخيال

TT

يحتفل العالم في هذه الأيام بالذكرى المائتين للروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، سيد ورائد الأدب الواقعي. وهو من الكتاب الذين هِمت بأدبهم فأخذت روايته «أوليفر تويست» مع القرآن الكريم عندما أخذوني لإجراء عملية جراحية خطيرة. نشروا في هذا الموسم ومثلوا وأخرجوا شتى الأعمال من رواياته وانشغل بأمره المعلقون والمؤرخون والنقاد. كان مما شهدته منها المسلسل التلفزيوني «توقعات عظيمة» (Great Expectations). انتهى العمل التلفزيوني ببطل الرواية بب يلتقي في المشهد الأخير بمحبوبة صباه استيلا بعد فراق طويل وزواج وفراق بعد زواج تعيس.

يقبلان على بعضهما البعض ويقترب الوجهان حتى كادا يتلامسان، ثم تنتهي اللقطة التلفزيونية. لم يقبلها ولم تقبله.

انتهى المشهد وبدأت نشرة أخبار العالم. يلعن أبو العالم! قلت لنفسي. ماذا جرى لبب؟ هل كان هذا اللقاء فاتحة لعودة الغرام القديم وبداية شراكة زوجية، بالخير والبنين؟ هرعت لمكتبي والتقطت الرواية وغرقت في قراءتها. تنتهي الرواية بهذه الجملة؛ يقول بب: «لم أر أي شبح لفراق آخر منها».

ما الذي يقصده المؤلف من هذه الكلمات؟ هل سيتزوجها؟ هل سيصاحبها بعلاقة صداقة بريئة؟ هل سيعيش معها بالحرام؟

رحت أعود لقراءة الفقرة ثم قراءة الفصل بكامله. ولم أتوصل لنتيجة. لماذا تركني المؤلف بهذا الغموض؟ قضيت الليل أفكر وأحلل وأستنتج وأنتظر الصباح لأقرأ ما يقوله العارفون. هل تزوج بب في الأخير باستيلا؟ مضيت أسأل وأتأمل وأعود لقراءة الرواية واستشارة أهل الحكمة والدراية.

مضت أيام وأنا أفكر في بب ومصير استيلا، وكأنه أخي وشقيقي واستيلا بنت من بنات عمومتي عاكسها الحظ في حياتها. مضيت بهذا حتى أفقت من هواجسي ومخاوفي!

من هو بب هذا ليعنيني أمره وأشغل بالي بحياته ومصيره؟ مجرد شخصية خيالية! ولكن الكاتب أحسن في تصويرها وسرد حياتها حتى اكتسبت حياة حقيقية امتزجت بحياتي. وهذا لعمري هو الأدب الرفيع. كم سمعت من يصف شخصية أدبية أو تمثالا منحوتا فيقول إنها شخصية حية تكاد تلمسها. هذا ما فعله النحات الكبير مايكل أنجلو عندما فرغ من نحت تمثاله الشهير «ديفيد» فضربه بمطرقته وقال له: «تكلم»!

ولكن بب لم يكن تمثالا أو ممثلا لأسرع إليه وأسأله: قل لي بحياتك، الله يرحم والديك، هل تزوجت باستيلا سرا؟ هل عاشرتها بالحرام؟ قل لي، الله يخليك!

كان تشارلز ديكنز ينشر رواياته في شكل فصول صحافية. وكان الجمهور يقرأ الفصل ثم يتحرق، أسبوعا كاملا، لمعرفة ما سيجري في الفصل التالي. وبالطبع كانت هذه الفصول تنقل على ظهر السفن إلى أميركا. يقال إنه عندما كان ديكنز يسلسل روايته «دورت الصغير» ووصل الفصل الذي أشرف فيه دورت على الموت، تحرق القوم ليعرفوا ما سيحصل في الفصل التالي. ما إن سمع سكان نيويورك باقتراب السفينة التي تحمل المجلة، حتى هرعوا لرصيف الميناء شوقا وتحرقا. وما إن اقتربت من الرصيف حتى فقد القوم صبرهم فراحوا ينادون البحارة: «هل مات دورت الصغير؟».