فكرة محادثات سرية.. لعل وعسى

TT

ولدت فكرة المحادثات السرية، التي توجت باتفاق أوسلو، من أحشاء المحادثات العلنية التي افتتحت في مدريد، وتواصلت في واشنطن.

وبينما كان المغفور له بإذن الله حيدر عبد الشافي، وتوأمه في مفاوضات واشنطن صائب عريقات، يقفان كل يوم أمام الكاميرات يبثان الشكوى من التشدد الإسرائيلي، كان محمود عباس مدعوما من ياسر عرفات يحفر نفقا تفاوضيا تحت الأرض جعل محادثات واشنطن مجرد واجهة دعائية بينما كانت المحادثات الحقيقية تجري في جنح الظلام دون علم واجهة مدريد وواشنطن.

هذا ما كان في الماضي البعيد، أما القريب الذي يؤرخ له بانتهاء مفاوضات عمان، يبدو أن البعض - والوقت مبكر على ذكر الأسماء والأوصاف - يفكرون في إعادة التجربة من جديد.

بعد انتهاء المهلة غير المنطقية التي حددت لمحادثات عمان الأخيرة، تسربت أخبار لم يؤكدها أي مصدر رسمي عن أن جهدا غير معلن يجري الآن مع الحكومة الإسرائيلية لإيجاد إمكانيات حلول دائمة إن أمكن، أو مؤقتة على الأرجح، لمنع مشروع السلام من الموت النهائي، وإحياء الأمل ولو بصورة جزئية بإمكانية استمرار عملية السلام ما يجنب الجميع دفع الأثمان الباهظة للجمود الراهن والفراغ المفضي إلى المجهول.

ويبدو أن الاتصالات السرية البعيدة كل البعد عن الكاميرات والميكروفونات والاستعراضات البلاغية، أضحت احتمالا منطقيا رغم حساسية الفكرة والأسلوب ورغم الإخفاقات المروعة التي منيت بها عملية أوسلو. إلا أن من يفكرون في القنوات السرية يسوقون حججا يرونها منطقية أو على الأقل أفضل من غيرها لفتح أبواب لا تستطيع الأبواب التقليدية فتحها، مرجعة نجاح أوسلو في التوصل لاتفاق إلى الطريقة التي تمت بها، أما إخفاقات أوسلو فكانت متصلة بالتطبيق الرديء والمستجدات المفاجئة وغيرها من الأسباب الموضوعية التي لا تمت للطريقة بصلة.

وإذا ما راجعنا مسيرة العملية السياسية بيننا وبين إسرائيل بجملتها وتفصيلها فإننا نلاحظ أن أي تقدم جزئي حدث كان ثمرة مقدمات سرية، وأن المبالغة في منح وسائل الإعلام معلومات ومواقف كانت الأكثر فاعلية في إحباط التقدم.

وكلما كان المغفور له عرفات يرى نفسه أمام انسداد سياسي وتفاوضي، كان يلوذ إلى طرق غير تقليدية وغير معلنة لتجاوز الانسداد وإعادة العملية التفاوضية إلى الحياة.

هكذا يفكر دعاة ومنظرو العودة ثانية إلى تجربة المحادثات أو الاتصالات السرية، بعد أن وصل اليأس من المفاوضات العلنية إلى ما وصل إليه، بل إن مجرد بدء هذه المفاوضات أضحى صعبا وربما أكثر صعوبة من توقع النجاح في تحقيق الأهداف.

ومع أن العمل السياسي لا يحرم أي نوع من محاولات تفادي الفشل المطلق، خصوصا حين يفكر في هذه المحاولات طرف ثالث مثل أميركا أو أوروبا أو حتى بعض القوى الإسرائيلية غير الرسمية والتي لا تعدم وجود نظراء لها في الجانب الفلسطيني. إلا أن هذا النوع من المحاولات أضحى بعد انهيارات مباني أوسلو ومحاولات إنقاذها من الانقراض أقل جدوى من حيث بلوغ نتائج أساسية ووضع هذه النتائج موضع التطبيق.

وإذا ما قارنا مدريد بأوسلو وخلاصات أوسلو الراهنة بما يقترح من عمل سري، فإننا نلاحظ الفوارق والمتغيرات التالية:

أولا: بدأت مدريد بضغط دولي عقب حرب الخليج، وكان صاحب القرار فيها حكومة الليكود بقيادة إسحاق شامير، أما أوسلو التي انبثقت في ظلها، فكانت بقيادة حزب العمل القوية آنذاك ممثلة بالثنائي الشهير رابين وبيريس.. وأين نجد مثل هذين الرجلين في زمن ليبرمان ونتنياهو.. وفي الزمن الذي تقلص فيه عدد نواب حزب العمل في الكنيست إلى الـ10 تقريبا.

ثانيا: أن سحر الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين في زمن أوسلو كان شديدا، بحيث غطى على المعوقات الموضوعية، فكانت السنوات الأولى لما بعد أوسلو سنوات احتفالية ازدهرت فيها آمال السلام، إلا أنها وبعد زوال سحر الاتفاق، تحولت إلى كوابيس جعلت ما قبل الاتفاق كما لو أنه جنة نعيم مقابل ما بعده..

ثالثا: كانت أوسلو اتفاقية على عناوين، ولم يجاف الرئيس الراحل حافظ الأسد الحقيقة، حين وصف كل سطر فيها بأنه بحاجة إلى عشرات الاتفاقيات. أما الآن، فقد تغيرت الأجندة، وأضيف لها بنود جديدة، تجعل من مجرد بدء المفاوضات عملية مستحيلة. فلقد أقحم موضوع يهودية الدولة، وحتمية الاعتراف الفلسطيني بها، وهو موضوع لم يطرح لا في مدريد ولا في أوسلو، ولا أخال أي فلسطيني يمكن أن يقدم على أمر كهذا.

إننا ونحن نواجه الاستعصاء التفاوضي، والانشغال الموضوعي دوليا وإقليميا وعربيا عن العملية السياسية الشرق أوسطية وشقها الفلسطيني تحديدا، سنسمع عن الكثير من المحاولات العلنية والسرية، وسنسمع أكثر عن توصيف اللقاءات، بحيث قد نستهلك كل ما في اللغة العربية من مصطلحات وما أكثرها، فبعد المباشرة هنالك غير المباشرة، وبعد العلنية هنالك السرية، وبين هذا وذاك، الاستطلاعية والاستكشافية، وهكذا تكثر المحاولات والأوصاف، وتظل العربة تسير بسرعة إلى الوراء.