إما تنحيا على طريقة «الشيشكلي» أو تنحية بالقوة!!

TT

كثر الحديث قبل اجتماع مجلس الأمن الدولي الأخير وبعد ذلك، عن ترتيبات جرى البحث فيها «جديا» من قبل المجموعة الحاكمة لإرسال بشار الأسد إلى المنفى بعد تنحيه كمخرج لهذا النظام من أزمته الداخلية الطاحنة، ولعل ما عزز هذه التكهنات والاستنتاجات أن وكالة «رويترز» قد نقلت يوم الخميس الماضي عن غربيين أن الولايات المتحدة وحكومات أوروبية ودولا عربية قد بدأت ببحث خروج الرئيس السوري إلى المنفى، وأن هناك ثلاث دول مقترحة، وعلاوة على هذا فإنه نسب إلى الرئيس التركي عبد الله غل أنه قال: إن بلاده قد تفكر بمنح اللجوء للأسد ولعائلته.

وفي هذا الاتجاه ذاته نسب إلى مصادر غربية لم تجر تسميتها، أن اتفاقا جرى بين الأميركيين والروس قبل جلسة مجلس الأمن الأخيرة، التي استخدمت فيها كل من روسيا والصين حق النقض «الفيتو» ضد المشروع العربي المدعوم من قبل الأميركيين والأوروبيين ودول أخرى، على أن تتقدم الأعضاء في المجلس باقتراح وهي تعرف سلفا أنه سيواجه بالاعتراض الروسي والصيني وفقا لما حدث بالفعل، لإعطاء موسكو فرصة لإقناع القيادة السورية لتنفيذ المبادرة كاملة بما في ذلك البند المتعلق بتسليم السلطة إلى نائب الرئيس السوري وفقا للخطة الخليجية في اليمن، وعلى أساس أنه إذا فشل هذا الاقتراح فإن واشنطن ستعاود عرض مشروع القرار على مجلس الأمن وعلى أن يلتزم الروس مسبقا بعدم التصويت ضده.

وحقيقة أنه من غير الممكن أن تصل ألاعيب الأمم إلى هذا الحد المكشوف وعلى رؤوس الأشهاد، والدليل أن متحدثا باسم البيت الأبيض قد نفى هذه المعلومات وقال إن هذه التقارير غير صحيحة وإن موقف المندوبة الأميركية في مجلس الأمن واضح «للغاية»، وإنه لا يوجد أي شيء غير معلن، وكل هذا ومع ذلك فإن ما فيها أنها «مصادر غربية» قد أصرت على أن إرسال روسيا لوزير خارجيتها ورئيس استخباراتها إلى دمشق يوحي بأن الروس ينوون الضغط على الأسد لتنفيذ المبادرة العربية بكل بنودها بما في ذلك تنحيه عن الحكم ورحيله عن مواقع المسؤولية.

وهنا وعلى افتراض أن هذه التقديرات والتسريبات صحيحة، وأغلب الظن أنها غير صحيحة وأن أكثر ما يمكن أن تطالب به موسكو القيادة السورية هو إجراء بعض الإصلاحات التجميلية ليس إلا، فإن المشكلة تكمن في الرئيس السوري نفسه وفي المجموعة المحيطة به التي بيدها مقاليد الأمور كلها، فبشار الأسد حسب الذين يعرفونه عن قرب لا يزال يعتقد أن الشعب السوري كله باستثناء حفنة مارقة مدفوعة من الخارج يتمسك به ويصر على بقائه، ليس لعامين أو أكثر أو أقل وإنما للأبد، ولهذا فإن التنحي بالنسبة إليه غير وارد على الإطلاق، وإنه سيبقى يرفع من وتيرة العنف واستخدام القوة الغاشمة إلى حين استتباب الأمور له كما استتبت لوالده بعد مذبحة «حماه» الشهيرة في عام 1982.

ثم إن المجموعة المحيطة به من أبناء الأعمام والأخوال ومن الذين أورثه إياهم والده الذي كان ركب معادلة الحكم حتى طائفيا على أساس أن يبقى في عائلته إلى الأبد، لا يمكن أن تقبل بإعطاء فاروق الشرع ولا مسؤولية واحدة من المسؤوليات الرئاسية، لأنهم يعرفون أن خطوة كهذه ستؤدي إلى ارتفاع معنويات الثائرين ضد نظامهم، وأنها ستؤدي إلى قفز كثيرين من كبار المسؤولين من سفينة قد بدأت بالغرق، وبالتالي فإن كل هذا سيؤدي إلى انهيار النظام وفي فترة قريبة لن تزيد في أحسن الأحوال عن شهور قليلة.

ربما يكون هناك انقلاب ضد بشار الأسد وبعض أقرب المقربين إليه من قبل بعض الضباط الذين أصبحوا لا يجدون ما يحافظون به على مواقفهم إلا القيام بحركة التفافية سريعة والتضحية بالرئيس وبعض أعوانه، أما أن يبادر هذا الرئيس طوعا وبقرار ذاتي بالتخلي عن مواقع المسؤولية، وهذا في حقيقة الأمر غير متوقع على الإطلاق، فإنه حتى شقيقه ماهر الأسد ومعه أكثر المتنفذين في المجموعة ومن وراء هؤلاء كلهم إيران، التي تعتبر أن هذه المعركة هي معركتها ومعركة مشاريع الإقليم المستقبلي، لا يمكن أن يسمحوا له بهذا وحتى إن اضطروا للتخلص منه بطريقة من الطرق الاستخباراتية التي يتقنونها أيما إتقان، وعندها ستكون التهمة جاهزة وهي ستلصق بالطبع بعملاء الغرب والولايات المتحدة و«الرجعية العربية»!!

إن هذا هو واقع الحال وذلك مع أن بشار الأسد لو أنه تخلص من أوهامه ومن ضغط المحيطين به وبعضهم بالطبع من أبناء عائلته القريبة، وأخذ العبرة من تجارب غيره، لوجد أن الرئيس العراقي صدام حسين ما كان من الممكن أن ينتهي تلك النهاية البائسة لو أنه «لم يركب رأسه» ولم يرفض العرض الذي تقدم به إليه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بمنحه اللجوء السياسي والحماية الكاملة في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولو أنه لم يحلق في الأوهام بعيدا ويسيطر عليه هاجس أن بإمكانه تكرار تجربة جمال عبد الناصر في حرب قناة السويس التي خرج منها زعيما عربيا كبيرا مع أنه كان للرئيس الأميركي الأسبق أيزنهاور دور لا يمكن التقليل منه في دحر «العدوان الثلاثي»: إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، وأيضا مع عدم إغفال دور الاتحاد السوفياتي.

إنه على بشار الأسد إذا كان يملك ولو القليل من قرار تقرير مصير نفسه ومصير عائلته الصغيرة، زوجته وأولاده الصغار، أن يأخذ العبرة أيضا من النهاية التي انتهى إليها «الأخ قائد الثور» وهي نهاية جاءت أكثر مأساوية من نهاية صدام حسين، فالقذافي الذي كان يطلق على نفسه لقب ملك ملوك أفريقيا كان قد رفض عرضا سخيا عرضه عليه كبار القادة الأفريقيين عندما جاءوا إليه في طرابلس في بدايات الثورة ضده وضد نظامه «الجماهيري»، وكانت النتيجة تلك النهاية المفزعة التي تجسدت في تلك الصور المرعبة التي تناقلتها صور فضائيات العالم كله.

ثم هذه ليست نصيحة وإنما مجرد استذكار لعبر التاريخ وأحداثه، فإن المفترض أن بشار الأسد وقد أصبح بقدرة قادر عضوا في نادي الرؤساء السوريين وما أكثرهم، وهو الآن معلق من رموش عينيه وهدير الثوار يقترب من قصره في منطقة المهاجرين في دمشق، وجيشه يتثلّم على هذا النحو، إن الرئيس أديب الشيشكلي الذي سبقه بنحو نصف قرن قد بادر إلى التنحي والرحيل، وكان ذلك في عام 1954 عندما أصبح الخيار إما المغادرة وإما العناد والتمسك بالحكم وترك سوريا تغرق في التمزق والانقسام والحرب الأهلية المدمرة.

كان أديب الشيشكلي ضابطا فعليا تقلد بعض أوسمته لمشاركته في حرب مواجهة إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين، وليس ضابطا مصطنعا تسلم رتبه وأوسمته خلال ساعة واحدة فقط، وكان أيضا قد بقي في مواقع المسؤولية العليا منذ انقلاب الحناوي على حسني الزعيم وإلى أن فرض نفسه على كل أطراف معادلة مراكز القوى وأصبح رئيسا للجمهورية، لكنه مع كل ذلك قد اختار التنحي والمغادرة إلى البرازيل التي بقي فيها حتى اغتياله في عام 1964 على خلفية استهدافه للطائفة الدرزية في جبل العرب نتيجة انحيازات إقليمية كانت قد سادت المنطقة في تلك المرحلة المتقدمة كانعكاس للعبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية.

إنها ليست نصيحة ولكن وقد أصبحت سوريا تقترب من الحرب الأهلية المدمرة، وأصبح من المؤكد أن مصير هذا النظام هو الزوال مهما حاول أصحابه السباحة ضد التيار وتأجيل لحظة الحقيقة بقدر الإمكان، أليس من الأفضل للرئيس الأسد أن يختار ما كان اختاره أديب الشيشكلي مع فارق أن هذا الأخير قد اختار البرازيل كمنفى بعيد ووراء بحور الظلمات من دون أي ضمانات بالنسبة لحياته، بينما هناك من يعرضون على بشار مأمنا له ولأطفاله ولعائلته بضمانات دولية فعلية وحقيقية.