رواية الحرب اللبنانية

TT

لا نعرف نسبة الذين ذهبوا إلى الحروب طوعا عبر التاريخ، لكننا نعرف أن الفرق الموسيقية تتقدم الجنود عازفة ألحانا حماسية مثيرة. ثم يبدأ الهجوم، كما في حروب نابليون، وبعد قليل يسقط المئات جثثا على الأرض. لكن الأحياء من الموسيقيين يستمرون في العزف وقرع الطبول. وإذا ما توقفوا، هناك أوامر بإطلاق النار عليهم فورا. لا بد للحرب أن تستمر.

وفي الجيوش هناك فرق أخرى مهمة رجالها أن يطلقوا النار على رفاقهم الذين تمنعهم عواطفهم من إطلاق النار على جريح. خدرتنا السينما بأفلام الحرب التي عرضتها علينا. أبطال ونبلاء وقصص حب. لم ترد هوليوود (ولا بريطانيا ولا فرنسا) أن تهبط عزائم الجنود أو المجندين. صورت لنا بطولات الأميركيين وحماقة الألمان وإجرامهم. ولم تتغير صورة الجندي الأميركي إلا بعد مرحلة أفلام فيتنام وتوحشها.. عندها صار موازيا للألماني. وبلغ الروس في المرحلة السوفياتية مرتبة السخف الهائل في تصوير الأفلام التي تمجد بطولات الجنود ونبلهم وأخلاقهم في القتال. لكن الروس الذين عانوا من فظائع الجنون الهتلري ما لم يعرفه شعب آخر، ما لبثوا أن ارتكبوا بدورهم فظاعات مريعة بلا حدود، عندما وصلوا ألمانيا المهزومة، التي لم يبق حي فيها سوى الأطفال والنساء.

ليس هناك ما هو أكره من الحرب إلا الحروب الأهلية. الأفلام السوفياتية المرفقة بالموسيقى التصويرية لم تقل للمشاهد إن الروس فقدوا في حرب القرم (القرن التاسع عشر) 300 ألف رجل. ليس في القتال بل في المرض والمجاعة والجثث التي أكلها الذباب.. وكذلك خسائر فرنسا (100 ألف) وبريطانيا (70 ألفا). عندما كنت أتنقل بالمترو الباريسي شابا، كنت أتساءل: لماذا يريد الفرنسيون تذكر معركة «سيباستوبول»، بإقامة محطة باسمها؟

ثلثا الضحايا في حرب القرم كانوا من المرض والتعب. لذلك نسي العالم الحرب ولا يزال يتذكر فلورنس نايتنغيل، رائدة مهنة التمريض، التي كانت تسابق الذباب إلى المصابين والمتعبين. رجلان قررا أن يعبرا آلاف الأميال، للاعتداء على الروس في أرضهم وبيوتهم: مهووس من كورسيكا يدعى نابليون، ومهووس من النمسا يدعى أدولف هتلر. غريبة المصادفة: لا الأول كان من فرنسا، التي قاد جيوشها إلى الموت مع بعض الانتصارات، ولا الثاني كان من ألمانيا، التي قاد شعبها إلى الدمار وهو يرفع له التحية.

يقول اللورد راسل، أحد قادة ومؤرخي حرب القرم، إن الجنود كانوا غالبا على حافة الجنون، أو مخمورين ينامون على حافة الخنادق، ناسين أنهم في قتال. يأخذ البعض على أدباء لبنان أنهم لم يكتبوا «رواية الحرب».. هكذا كنت أعتقد أنا أيضا. أي أن تُكتب الرواية كشيء من رادع، أو شيء من مرآة، لكي يرى الذين ارتكبوا الحرب ماذا فعلوا. ثم قلت لماذا؟.. دعهم يتسلون بالرقاب، حربا أو سلما. بل إن بعضهم يكرر أمام الناس أن يديه غير ملطختين بالدماء.. وهذا صحيح.. فقط ضميره مغسول بها.