المجاهر بالإلحاد.. عليه أن يتحمل مسؤوليته الفكرية والاجتماعية

TT

لماذا الإصرار المتحجر على إحياء «نزعة الإلحاد»، والحرص على بعثها من مقابرها بعد أن أماتتها ودفنتها حقائق العلم، ولا سيما علم الفيزياء؟

قبل مناقشة هذا السؤال، ندعو القارئ إلى التفكر الذكي العميق في الحقائق التالية:

1- حقيقة: أن ضمائر الناس مصونة - بمنهج الإسلام نفسه - من التفتيش فيها بهدف تجريمها وهي لم تزل «ضمائر مكنونة»!

فالعليم بـ«ذات الصدور» هو الله وحده: ليس له شريك في ذلك: لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب. ولقد قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - واضحة صريحة: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا».. يشير عليه الصلاة والسلام إلى كلمة لا إله إلا الله: أقالها المجني عليه بصدق أم تقية.. وثمة حديث نبوي آخر: سافر المعنى والقصد وهو: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به»، أي أن حرمة الضمير مصونة ما لم تظهر في قول أو عمل، فعندئذ ينكشف المكنون، ويتحمل صاحب القول أو العمل مسؤوليته الدينية والاجتماعية الذاتية عما قال أو عمل.

2- وحقيقة أن الأصل والغاية في الإسلام هي: إدخال الناس في الإسلام: لا إخراجهم منه.. فالإسلام «منهج جذب» لا «منهج طرد»، وهما منهجان نقيضان لا يلتقيان. فمنهج الجذب يقضي بالدخول في دائرة الإيمان، على حين يقضي منهج الطرد بالدفع إلى دائرة الكفران، وليس يلتقي إيمان وكفران.. وإن شئتم تعبيرا آخر، فيمكنكم القول: إن الإسلام «منهج جمع»: يجمع مسلما إلى آخر في متوالية حسابية تتكون منها الأمة في نهاية الحسبة.. وليس «منهج طرح».. فمنهج الطرح يؤدي إلى الصفر في نهاية الأمر: هذا مسلم جاهل. وهذا مسلم عاص. وهذا مسلم خاطئ. فلنطرحهم جميعا من الحساب، وبما أنه ليس هناك مسلم يخلو من أخطاء ومعاص، فإن هذا المنهج يفضي إلى طرحهم من الرصيد، فلا يبقى - من ثم - إلا الصفر.. وهذه نزعة مخبولة عند الخوارج والمعتزلة، ومن تورط في طريقتهم.

وكون الإسلام منهج جذب لا طرد، ومنهج جمع لا طرح، فإن هذه حقيقة معرفية قامت عليها عشرات البراهين:

أ- برهان الدعوة إلى الإسلام، فغاية الدعوة هي إدخال الناس في الإسلام: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

ب- برهان الخيرية والفرحة بدخول إنسان في الإسلام. فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».. قال ابن حجر - في شرح الحديث: «يؤخذ منه أن تآلف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله».

ج- برهان «الإحصاء الكمي» للمسلمين. فقد أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك فقال: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام».. وفي رواية «أحصوا لي».. هكذا من تلفظ بالإسلام. فالكم العددي معتبر في الإسلام ولذلك مقاصد عديدة منها: أن يجري الاستيثاق من الرصيد البشري المسلم: ابتغاء توظيفه في البناء المدني، وخطط الدفاع.. إلخ.

3- الحقيقة الثالثة: أننا نناقش قضية الإلحاد أو الكفر أو الردة في جانبها الفكري فحسب، دون الخوض في أطرها الجنائية التي هي من اختصاص القضاء.. ونحن لسنا قضاة بكل توكيد.

لقد تقدم في السياق: أن ضمير الإنسان المكنون في صدره هو ضمير مصون: لا يصح انتهاك حرمته بحال من الأحوال، فالاطلاع على ضمائر الناس من خصائص الألوهية.. وتقدم أن الغاية هي إدخال الناس في الإسلام: لا إخراجهم منه، وأن الإسلام منهج جذب وجمع، لا منهج طرد وطرح.

في ضوء هذه الحقائق يتبدى السؤال الكبير: ولكن ماذا لو اختار امرؤ ما الإلحاد أو الكفر أو الردة، وجهر بذلك في صورة من صور الجهر والمعالنة: كالتطاول على ذات الله - جل ثناؤه - والاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم؟

الموقف العادل العاقل من هذا الذي اختار الكفر، وجهر به وعالن هو:

1- أن يتحمل المسؤولية الفكرية والمعنوية الكاملة عما جهر به.. فمن مضامين الجهر والمعالنة: أن يعرفه الناس بذلك: أن يعرفوه بأنه ملحد أو كافر. ولو كان لا يريد ذلك لكتم كفره في صدره، ولما أجراه على لسانه أو قلمه، ولما كان لإنسان الحق - عندئذ - في أن يؤاخذه مؤاخذة معنوية أو جنائية، ذلك أن الشريعة قد أقامت الأحكام على أساس «ظاهر الناس» لا باطنهم. فقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وإن الوحي قد انقطع. وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه. وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته. ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة».. والمجاهر بالإلحاد أو الكفر يظن في نفسه الشجاعة الأدبية، فليتسلح بذات الشجاعة ويتقبل من المجتمع المسلم بأن يصفه بالوصف المناسب له «أنت ملحد.. أنت كافر.. أنت مرتد»، ولا يحق له - بمقياس شجاعته الأدبية - أن يغضب من وصفه بذلك، فإن غضب فإن مثله عندئذ يكون مثل الذي نوى خيانة الوطن - مثلا - وجهر بهذه الخيانة فلما وصف بـ«الخيانة الوطنية» غضب واحتج! وكأنه يقول - في الحالتين: أنا كافر بإسلامكم، كافر بالله ورسوله فيجب عليكم - على الرغم من ذلك - أن تعرفوا بأني «مسلم»!.. وأنا كذلك خائن للوطن فيجب عليكم أن تعرفوا وأن تثقوا بأني «وطني»!

مرة أخرى: ماذا لو اختار امرؤ الكفر وجهر به؟.. والسؤال يلد سؤالا آخر هو: هل هناك من يختار الكفر ويجهر به.

في العصور السابقة، كان هناك من يفعل ذلك: «قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ».

وفي هذا العصر من يفعل ذلك، فالكفر «مرض نفسي» يصيب قوم ثمود الغابرين، كما يصيب الناس في القرن الحادي والعشرين، وليس لكفار اليوم خيرية على كفار الأمس: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ»؟

2- الموقف الثاني تجاه من يلحد ويكفر: تعريف الناس بزيغه وإلحاده وتحذيرهم منه حتى لا يغتر به مغتر.. وهذا واجب العلماء والمفكرين.. أوَليس من واجب هؤلاء: تنوير الناس ضد الدجل والخرافة، وضد التأويل الفاسد للدين؟.. بلى.. والأمر كذلك بالنسبة للإلحاد والملحدين، فالإلحاد - في حقيقة الأمر - ليس «حجة عقلية» قط، وإنما هو مرض نفسي ومزاج سقيم يعتمد على أوهام مفرطة في المقدمات والقياس والاستنتاج، ومن ذلك استدلاله بالموجودات العظيمة المتنوعة الجميلة على نفي موجدها! وكأن حضرة الملحد المخلوق هو - وحده - الموجود، وكأن خالقه غير موجود!

ونختم المقال بتيئيس مطلق للملحدين فنقول لهم: إن ألوف الملاحدة في التاريخ والحاضر حاولوا التطاول على الإسلام، فهلكوا وبقي الإسلام قويا صاعدا: ينعطف إليه المسلمون، ويدخل فيه غير المسلمين بالألوف، اقتناعا حرا، وحبا شديدا لهذا الدين، ولله الذي أنزله، وللرسول الذي بلغه.