تسرع المخابرات يأتي بنتائج عكسية

TT

عاصفة سياسية ومناقشات حامية الوطيس في الصحافة وأندية القانونيين في بريطانيا، بعد كسب الداعية الراديكالي أبو قتادة آخر جولاته القضائية، بشكل يثير قضايا تستحق المناقشة.

حكم قاض إنجليزي الأسبوع الماضي بضرورة الإفراج بأسرع ما يمكن بكفالة عن أبو قتادة (بشرط إعلان محل إقامته لأجهزة للأمن وعدم إلقاء الخطب العامة).

ثارت زوبعة احتجاجات في الصحافة تعبيرا عن غضب الرأي العام، وعقدت جلسة خاصة في مجلس العموم، تعرضت فيها وزيرة الداخلية لانتقادات من المعارضة، وحتى من بعض نواب الحكومة، بسبب الخلفية التاريخية للقضية.

منذ إرهاب 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حتى اليوم، بذل ستة وزراء داخلية لثلاث حكومات متعاقبة (بلير، براون، كاميرون) محاولات مضنية لترحيل الداعية إلى بلده الأصلي (الأردن) من دون جدوى، حيث نجح محاموه كل مرة في إقناع قضاة المحكمة (على مستويات الابتدائي، والاستئناف العالي، والنقض، وقضاء مجلس الشيوخ Law Lords، ويسمون الآن المحكمة السامية supreme court) بأن ترحيل الرجل، الذي لا يحمل جنسية بريطانية ولا يدفع ضرائب وإنما يتلقى إعانة مادية وسكنا مجانيا ومواصلات وتعليم الأولاد ورعاية صحية مجانية، إلى بلده الأصلي الذي ولد فيه ويحمل جنسيته، «ربما» يعرضه إلى انتهاك حقوقه الإنسانية وفق القوانين البريطانية.

المفارقة التي يستشيط لها الساسة غضبا (وكثير من المعلقين، ناهيك عن أغلبية المسلمين أنفسهم الذين يطيعون القانون ويعملون بجد ويدفعون الضرائب) أن الآيديولوجية التي يروجها الرجل ويستخدم أتباعه العنف من أجلها، وطريقة الحياة التي يسعون لفرضها على الإنسانية جمعاء، لا تعترف بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وتحتقر القوانين والدساتير الوضعية - والتي يسمونها كفرا ابتدعه «القردة والخنازير» (اللافتة التي يضعونها على غير المسلمين) - وهي القوانين التي يوظفها المحامون في كل مرة لمنع تنفيذ قرار وزير الداخلية بترحيله إلى الأردن.

وبعد توقيع مذكرة تفاهم بتعهد السلطات الأردنية بأن الرجل لن يتعرض لأي ضغوط أو تعذيب نفسي أو جسماني، وبالسماح للدبلوماسيين البريطانيين والهيئات الإنسانية بالتفتيش في زيارات مفاجئة لسجنه، ظنت وزارة الداخلية أن العقبة الأخيرة لترحيله انتهت.

لكن نجح محاموه في إدخال بذرة شك في ضمير القضاة بشأن عدالة محاكمته في بلده الأصلي؛ فالقضاء الإنجليزي يفسر 1 في المائة شكا، مقابل 99 في المائة أدلة إدانة لصالح براءة المتهم.

مصدر الشك أن الأدلة التي قد يستخدمها الادعاء ربما تكون أجهزة الأمن قد حصلت عليها من متهمين آخرين تعرضوا للتعذيب أثناء التحقيق. ولأنه من المستحيل على وزارة الداخلية البريطانية إثبات عكس هذا الاتهام، فقد حكم القاضي برفض ترحيل أبو قتادة.

ثم تلا ذلك قرار المحكمة الإفراج عنه بكفالة، بناء على طلب محاميه بأنه لا يوجد في القانون الإنجليزي، منذ أكثر من 800 عام، ما يبرر حبس شخص إلى أجل غير مسمى بلا حكم محكمة يثبت فيه ارتكابه لمخالفة جنائية تستحق إيداعه السجن.

الجدل الأول هو سيادة القانون، وطرحه فقهاؤه وأقلية من العقلاء المحافظين (كوزير العدل) الذين لم تسدل جرائم القتل الإرهابية ستار غشاوة تحول دون رؤيتهم المشهد الأكبر.

فلا ديمقراطية وحرية حقيقية دون سيادة القانون وأحكامه على الجميع. ويجادل هؤلاء بأنه رغم التأكد من أن إطلاق سراح الرجل قد يمنحه فرصة غسل أدمغة شباب ضعيف الحجة العقلية وفرصة استخدامه تفسيرا ملتويا للدين يحببهم به في «الشهادة» بطريق مضلل، مما قد يؤدي إلى مصرع العشرات؛ فإن حبس هذه الرجل بحجة منع أذى أكبر هو مخالفة صريحة للقانون الإنجليزي القديم بأن الشخص بريء حتى تثبت إدانته بأدلة مادية لا تدع أي مجال للشك. ويستمر جدل هؤلاء بأن الغرض الأصلي لعصابات الإرهاب الذين يتبعون فتاوى الرجل هو القضاء على الديمقراطية البرلمانية وحكم القانون وحقوق الإنسان في مجتمعات راقية كبريطانيا؛ ومن ثم فإن استخدام أساليب ديكتاتوريات العالم الثالث من قانون الطوارئ والحبس «الاحتياطي» خشية أعمال إرهابية، يعني انتصار الإرهابيين على الديمقراطية، حيث تحقق الحكومة المنتخبة ديمقراطيا لهم (بانتهاك القانون) ما عجزوا عن تحقيقه بالإرهاب.

أشرطة أبو قتادة، وخطبه، ومراسلاته، وتسجيلات التنصت على مكالمات تعليماته في شكل فتاوى من آيات قرآنية خارج السياق، كانت ضمن ملف ضخم، واعتبرها الادعاء من الدوافع الأساسية - وأدوات التحريض - لمجموعات كعصابة 11 سبتمبر وغيرها ارتكبت أعمالا إرهابية. لكنها، حسب القانون الإنجليزي، لا يمكن استخدامها كأدلة في المحكمة بلا شهود يدلون القسم ويتعرضون لإعادة استجواب محامي الدفاع. والشهود جزء من شبكة الاستخبارات، وبعضهم مسلمون، وكشفهم سيعرض حياتهم وحياة ذويهم للخطر، ويكشف طرق الحصول على الأدلة.

وهذا يقود إلى الجدل الثاني، وهو قصر نظر كثير من أجهزة المخابرات العربية - وتشاركهم في هذا الخلل مخابرات أخرى، كالإسرائيلية، والباكستانية، والروسية، وحتى الأميركية التي تجيز طرق استجواب تعتبرها القوانين الإنجليزية والأوروبية تعذيبا. وقصر النظر يعتبر الحصول على المعلومات إنجازا، لكنه كان قصير المدى أدى إلى تقييد أيدي أجهزة الأمن الأوروبية والبريطانية.

فمثلا فضلت المخابرات البريطانية، عقب سقوط طالبان في خريف 2001، تعقب «المتطوعين» وعملاء «القاعدة» العاملين مع طالبان، ووضعهم تحت المراقبة بهدوء لكشف بقية أعضاء الشبكات، بدلا من القبض عليهم. لكن تهور الأميركان فجمعوا كل من شكوا فيه في غوانتانامو. أضاع ذلك فرصة كشف بقية الشبكة، وأساء كثيرا إلى سمعة أميركا، ووضع إدارتي الرئيسين جورج بوش وباراك أوباما في مأزق قانوني يصعب الخروج منه؛ فلا توجد آليات لمحاكماتهم، وترفض بلدانهم الأصلية تسلمهم، وبعض من أفرج عنهم دبروا جرائم إرهابية.

تعذيب المشتبه فيه أو تعريضه لضغوط تحرمها القوانين المتحضرة يأتي بنتائج عكسية. فالسجين يعترف بما يريد السجان سماعه من معلومات وليس المعلومات الحقيقية التي ستؤدي إلى كشف الجناة الأصليين أو أعضاء الشبكة الإرهابية. لهذا يرفض القضاء الإنجليزي اعتراف المتهم كدليل إدانة، إلا إذا كان مكملا لأدلة مادية وشهود (قارن ذلك بالقول العربي بأن «الاعتراف سيد الأدلة»!!)، ورأينا كيف أدت معلومات زودت مخابرات باكستان، وإسرائيل وبلدان عربية، أمن بريطانيا بها إلى حرج القبض على مسلمين ثم إطلاق سراحهم لبراءتهم، في عمليات باهظة التكاليف والتعويضات. والسبب أن المعلومات التي قدمتها مخابرات هذه البلدان جاءت من اعترافات تحت ضغوط؛ وفي الوقت نفسه تمكن الإرهابيون الحقيقيون من الإفلات من المراقبة لارتكاب أعمال إرهابية كتفجير وسائل الموصلات، أو التسلل إلى الصومال، ونيجيريا واليمن (كمن حاول تفجير طائرة قبل عامين بقنبلة أخفاها في ملابسه الداخلية بتعليمات من أنور العولقي).

والدرس الأكبر هو لأجهزة المخابرات العربية، بضرورة الحصول على المعلومات بأساليب ذكية، والأهم قانونية دوليا.