النخب العربية في الحمامات

TT

عينة كبيرة نسبيا من النخبة العربية اجتمعت بدعوة من «المعهد السويدي للديمقراطية» و«مركز دراسات الوحدة العربية».. الاجتماع تم مطلع هذا الشهر لمدة أربعة أيام في مدينة الحمامات التونسية (60 كيلومترا جنوب العاصمة تونس) وعلى كتف البحر الأبيض، لتدارس ما سمته الندوة «خارطة طريق للانتقال من الثورة إلى الديمقراطية». الحضور خليط من التوجهات والاجتهادات الفكرية والسياسية، بعضها متناقض في رؤيته لما تم في السنة الأخيرة في الفضاء العربي. وقد قدمت أوراق بحثية بعضها غني في مادته. ورغم برودة الجو الطبيعي في المدينة الساحلية، فإن المناقشات لم تفتقد السخونة التي تطلبتها الموضوعات المطروحة، فمسرح الأحداث ما زال متحركا وشخوصه متغيرة ونتائجه محملة بمفاجآت. حضر جزءا من أعمال الندوة بعض المسؤولين التونسيين الجدد، مثل رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، والسيد راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة. في النقاشات استوقفتني أربع قضايا رئيسية، ولكن ذلك لا يعني أن هناك الكثير من الرؤى التي تقاطع بعضها وتناقض الآخر.

القضية الأولى: أن الثورات العربية التي اجتاحت بلدانا عربية كثيرة حتى الآن قد تقود إلى تفتيت تلك البلاد، كما عرفت، المثال الأكثر وضوحا هو اليمن الذي قد ينتهي في آخر المطاف إلى بلدين (وربما أكثر) نتيجة ضعف كبير في تحقيق التنمية المطلوبة، وتقاعس مزمن من المركز تجاه الأطراف. وتبين من المداخلات أن اليمن يعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية عميقة؛ أهمها البطالة المرتفعة، خاصة بين المتعلمين؛ حيث توجهت الدولة - كغيرها من الدول العربية - إلى تخمة في مؤسسات التعليم دون النظر إلى مخرجات التعليم؛ أولا من حيث الجودة، وثانيا من حيث تهيئة فرص عمل مناسبة، مما سبب فقرا واسعا في قطاعات كبيرة في المجتمع اليمني. لقد كانت مؤسسات الدولة غارقة في البيروقراطية والفساد إلى درجة لا يمكن انتشالها منها.

أما المثال الثاني الذي قد يؤدي إلى تفتيت الدولة كما عرفت، فهي ليبيا التي أهملت أطراف منها بسبق إصرار، أدى إلى تفاوت النمو في البلاد بدرجة صارخة، فحرمت تلك المناطق لفترة طويلة من التنمية، إضافة إلى التسلط القمعي الذي وقع على كثير من شرائح المجتمع من الدولة المركزية التي كانت تدار بشكل هزلي فتسببت في فقر وقهر مزدوجين.

هذا لا يعني أن بقية الدول الأخرى غير قابلة أيضا للتشظي والانشطار، على طريقة السودان أو العراق، التي إما انقسمت بالفعل، أو هي في طريقها إلى الانقسام، وهو ما يمكن أن يحدث بشكل ما في مصر؛ حيث بدأ التشدد ضد الآخر المواطن ينمو كالفطر في أرض سبخة، كما لم يعرف من قبل، سواء في الخطاب أو الممارسة، مما سوف يؤدي أولا إلى تهميش قطاع واسع من المختلفين (الأقباط)، ثم إلى هجرتهم أو تقوقعهم في بعض مناطق البلاد فيما يشبه الغيتو! هذا النوع من النقاش أضافت إليه التجربة التونسية بعدا آخر؛ فقد تبين أن نسبة كبيرة من الكتلة الانتخابية التونسية التي يحق لها التصويت لم تفعل في الانتخابات الأخيرة عزوفا منها، وأن الكثيرين الآن بدأوا يستفيقون على أن مطالبهم وإرادتهم غير محققة في المؤسسة المنتخبة أو الوزارة التي تشكلت منها، وبدأت هذه القطاعات تنظم نفسها بعد الموجة الأولى من الحماس التي انتابت التونسيين، حيث وجدوا أنفسهم يخسرون الماضي (الاقتصادي) دون أفق يمكنهم من كسب المستقبل، غير الكلام الآيديولوجي، الذي يروج له في التلفزيون التونسي عمرو خالد! الأمر الذي اعترف بصعوبته رئيس الوزراء التونسي في كلمته عندما قال: «نجح شعبنا.. في إزالة الجزء الفاسد ممثلا في رأس النظام والدوائر القريبة منه»، كما أشار إلى اهتمام الدولة الجديدة بوزارة الداخلية «التي قرر الشعب المحافظة عليها وعدم هدمها»، مما يشي بأن الحكم الجديد في تونس ما زال يرى الاعتماد على بعض الأدوات القديمة، وهو في أول الطريق يتلمس مسالكه، التي قد تنجح وقد تفشل أيضا. وكذلك اعترف السيد راشد الغنوشي في المناقشة؛ حيث زاد: «نحن في سنة أولى حكم»!

القضية الثانية: الموقف من الديمقراطية بمعناها المؤسسي الحديث، الذي لخصه البعض بسؤال: هل يتصالح الإسلاميون مع الديمقراطية؟ ففي كل من مصر وتونس، وربما اليمن في المستقبل ودول أخرى، حظي، وقد يحظى، الإسلام السياسي المنظم بشريحة غالبة في صناديق الانتخاب، ولكنها إشارة إلى حالة انفصام بين من قام بالثورة من الجماهير المحرومة ومن استفاد منها، فقد استفادت منها «العصبية المنظمة»، أي التيارات الإسلامية، ضد عصبية منظمة أخرى في السابق (تحالف الماليين مع العسكر). إلا أن الديمقراطية ليست صناديق انتخاب فحسب، بل هي إقامة مؤسسات تحقق الحرية وتضمن الخبز والأمن، واعتراف، قبل كل ذلك وبعده، بشيء اسمه التعددية! واضح من تجربة كل من مصر وتونس، كما ظهر من المناقشات، أن في كلتيهما قد حاز الإسلام السياسي (المعتدل) موقعا قائدا من خلال صناديق الانتخاب، إلا أنه قد برز على يمينه مباشرة قوى تسمى نفسها (سلفية)، وهي قوى تزايد على «الإسلاميين الإخوانيين» - إن صح التعبير - تزايد عليها على أرضها وبين جماهيرها. ولأن الأخيرة جديدة على العمل السياسي، فلا يوجد في قاموسها التدرج أو المواءمة أو التحالف، أو أي من الأدوات السياسية المتعارف عليها، مما يرسل في المجتمع موجات خوف «تطهيري»، كما أن هناك قاعدة إسلامية كبيرة وشعبية لم تشارك حتى الآن، وهي مجموعات الصوفية المنتشرة في مصر وغيرها من بلدان الربيع. كما يقع على يسار مجموعة «الإسلام الإخواني» مجموعات اجتماعية حداثية، وهي التي تطالب بالدولة المدنية العصرية بكل مشمولاتها.

أمام هذا التشابك، يشك كثيرون في أن تتحقق «ديمقراطية» على النسق الحديث في هذه البلدان، فهي مقدمة على شكل من الصراع الاجتماعي غير مسبوق، قاعدته المزايدة على التراث الإسلامي، ووسيلته الملاحقة والعزل الذي يمكن أن يعيد الدولة إلى مرحلة ظلامية جديدة. ومن جهة أخرى، فإن المراهنة على فضائل شبه سحرية للديمقراطية في مجتمعات تقليدية، أقرب للتبشير بالأحلام.

القضية الثالثة: يتساءل البعض: هل ما تمر به دول الربيع العربي هي مرحلة انتقالية تظهر فيها كل تلك التناقضات وتحتدم، وأنها أمر مؤقت سرعان ما تستقر على نمط حديث في كل الدولة؟ البعض في المناقشات يذهب ذلك المذهب، إلا أن السؤال: متى تنتهي المرحلة الانتقالية؟ هنا تتعدد الإجابات، فمنها ما يعتقد أن المرحلة الانتقالية تنتهي عندما يوضع دستور جديد (في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا) أو أي دول أخرى آتية للربيع، وتجرى الانتخابات الثانية، وليس الأولى، ويتأكد التبادل السلمي للسلطة.. وقتها يتأكد الجميع أن فكرة «التداول السلمي» للسلطة قد تحققت، وأن خدمة الجمهور العام قد ترسخت، بدلا من خدمة شريحة أو طائفة أو أعضاء حزب! إلا أن البعض يذهب إلى القول إن هذه الفترة الانتقالية قد تطول ويقوم الأقوى فيها بترتيب البيت، قانونيا واقتصاديا، لصالحه، مما يؤدي للدخول في دكتاتورية طويلة لها شكل آخر، من الخارج هي شبه ديمقراطية، ولكن من الداخل لها مخبر الدكتاتوريات المطاح بها.

القضية الرابعة: أين نصف المجتمع، وأعني به المرأة، من كل ذلك؟ وهو محور أخذ من النقاش ما يستحقه، فقد لاحظ البعض أنه في تونس ومصر وليبيا، يجري عمليا على الأرض تهميش دور المرأة، فهي في أقلية الأقلية في المؤسسات المنتخبة التي خرجت من رحم التغيير، كما أنها تدفع إلى الهامش في المؤسسات الأخرى. وقد استدعيت التجربة الجزائرية في مطلع التسعينات، عندما استخدمت المرأة الجزائرية حطب نار لتأجيج الاحتجاجات وقتها، ثم دفع بها إلى البيت مرة ثانية، كما استدعى النقاش الموقف الليبي الذي كان خطاب التحرير فيه قد ركز، من جملة قضايا ملحة، على موضوع شبه هامشي، هو قانون تعدد الزوجات! عطفا على الأعمال القائمة في تونس من موجة تحجيب النساء التي تنتشر كالنار في الهشيم!

تلك هي القضايا الأربع التي رأيت التركيز عليها من خلال تلك الندوة، التي، كما قلت، كانت غنية بالأوراق، وهي سوف تنشر في القريب، إلا أن نائج الربيع العربي ما زالت حبلى!

آخر الكلام:

أسر إليّ أحد الإخوة من ذوي الخبرة في رؤى النخب العربية وترددهم وعشقهم الدائم للتنظير.. قال: «لو تمت استشارة النخبة العربية من قبل مفجري وصانعي ثورات الربيع العربي، لقال لهم كثيرون: انتظروا لندرس ونتأمل ونوائم الظروف. ولكنهم، والحمد لله، لم يستشاروا!!».