السياسة الدولية والثورة السورية بين التصريح والتأويل

TT

ما كانت يوما دراسة وتحليل السياسة الدولية تعتمد على التصريح وظاهر النص بل على باطنه والتأويل، وما كانت يوما وزارة الخارجية في بلد ما أشد ارتباطا بأي مؤسسة حكومية مما هي عليه بمؤسسة المخابرات الخارجية. ولعلنا نتذكر كيف أن وزير الخارجية البريطاني السابق روبن كوك قد احتج على الحرب الأميركية - البريطانية على العراق عام 2003، ولم يصدق رواية أسلحة الدمار الشامل، بدليل أن ملفات المخابرات التي اطلع عليها عندما كان وزيرا للخارجية تثبت عكس هذه الرواية المزعومة. إذن فالسياسة الدولية ظاهرها إعلامي ودبلوماسي وباطنها مخابراتي ومؤامراتي، ويتكامل الظاهر مع الباطن نحو هدف واحد، هو خدمة المصالح الوطنية للدولة.

ونبقى في سوريا، مركز الصراعات في الشرق الأوسط، لنرى كيف أن التعامل الدولي مع الأزمة فيها له ظاهر وباطن أيضا، خصوصا بعد الفيتو الأخير لكل من روسيا والصين، حيث ظهرت الأبعاد الدولية للأزمة السورية جلية أكثر من أي وقت مضى. فالظاهر أن روسيا والصين هما الداعمتان الدوليتان لنظام بشار الأسد، وتشكلان حجر العثرة في وجه الأمم المتحدة لاتخاذ ما يلزم في معاقبة النظام في سوريا، ورفع المعاناة عن الشعب السوري، وأصبح العالم أجمع يحمّل روسيا والصين مسؤولية الإجرام غير المسبوق للنظام السوري وتماديه العجيب في قتل الشعب، بينما الولايات المتحدة، ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، تتصنع دور العاجز والملتزم بالشرعية الدولية، وأصبحت تهتم أكثر بالمساعدات الإنسانية عن الحلول السياسية، مما أشعر الجميع بأجواء الحرب الباردة، وربما الحنين إليها، لتبرير الفيتو الروسي، طبعا هذا هو ظاهر الأمر في المحافل الأممية والإعلام، لكن ما هو باطنه وحقيقته؟

لقد انتهت الحرب الباردة منذ أكثر من عشرين سنة، وانتصر حلف الغرب على حلف الشرق، وتحول العالم من ثنائي القطبية إلى عالم أحادي القطبية، مركزه الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ ذلك اليوم لا صوت يعلو فوق صوت أميركا، لا في الشرق ولا في الغرب. القواعد العسكرية الأميركية غطت العالم، والميزانية العسكرية الأميركية في تزايد مستمر. وتدخلت الولايات المتحدة عسكريا بلا تفويض من الأمم المتحدة في كل من يوغوسلافيا والعراق دون رادع من أحد. لقد تحدت الولايات المتحدة روسيا في عقر دارها، عندما تدخلت في يوغوسلافيا وقسمتها إلى دويلات، واعتقلت زعماءها الحلفاء الأقرب دوما لروسيا. وما كان من روسيا وقتها إلا الشجب والإدانة، هذه هي الحقيقة الأولى اللازمة دائما في تأويل الأحداث الدولية، وهي المعرفة الحقة بمكانة الولايات المتحدة وقوتها دوليا. وهذا لا يعني أنها القوة الوحيدة في العالم، أو أنها ستنتصر دائما، بقدر ما يعني أنها القوة الطاغية، وأنها تستطيع أن تفعل ما تريد.

أما الحقيقة الملازمة في هذا السياق فهي الأهمية الكبرى والمنفردة لسوريا في العالم وفي الشرق الأوسط خاصة؛ ففي سوريا تتشابك الجغرافيا مع التاريخ مع السياسة، وعلى أعتابها تنقلب موازين السياسة الإقليمية والدولية.

كان الشرق الأوسط، وما زال، عين المصالح الوطنية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. فبالنسبة للولايات المتحدة، الشرق الأوسط يعني الطاقة وإسرائيل، تحيا بهما وتموت من دونهما، لذلك كان الصراع على الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية مهما جدا للولايات المتحدة، وانتزعت السيطرة عليه من الحلفاء قبل الخصوم، وكانت سوريا قلب هذا الصراع، وهذا ما يفسر الانقلابات العسكرية المتعددة منذ 1949 وحتى 1970، حينما أحكم العلويون السيطرة على سوريا، وعندها فقط توقفت التغذية الأميركية للانقلابات في سوريا، وبدأت علاقات متميزة بين سوريا والولايات المتحدة، ظاهرها العداء وباطنها الولاء والاتباع، فكان التنسيق المستمر بينهما بشأن لبنان، ودخول الحرب جنبا إلى جنب ضد العراق، في حرب تحرير الكويت، والقيام بخدمات أمنية سرية في تعذيب المعتقلين في الحرب على الإرهاب، وكان تسليم سبعاوي، الأخ غير الشقيق لصدام حسين، للأميركيين ونهب أمواله، والأهم من هذا وذاك، هو أن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت هي التي جاءت إلى دمشق عند وفاة حافظ الأسد، وباركت سلمية انتقال السلطة من الأب إلى الابن، وليس المسؤولين الروس. وهذا لا ينفي وجود مصالح حيوية متبادلة بين سوريا والاتحاد السوفياتي، أو روسيا حاليا، لكن اليد العليا كانت، وما زالت، للولايات المتحدة. الحالة الاستثناء كانت ما بين عامي 2004 و2006 عندها فعلا تدهورت العلاقات السورية - الأميركية، وأحس بشار الأسد بالخطر الشديد، وقال وقتها للولايات المتحدة مستجديا بأنه ليس مثل صدام حسين، وأنه مستعد للتعاون، عندئذ لم تتدخل روسيا لحمايته من احتلال أميركي كان وشيكا.

ونبقى في الربيع العربي، حيث كانت الثورة السورية الأخطر من مثيلاتها على المصالح الوطنية للقوى الدولية والإقليمية والعربية، والكل لا يريد إسقاط نظام بشار الأسد، أعداؤه قبل أصدقائه، فماذا يمثله سقوط النظام في سوريا؟

ينطوي سقوط نظام بشار الأسد في سوريا (النظام العلوي) واستقرار الحكم لنظام سني على مخاطر كثيرة للمصالح الأميركية والدولية والإقليمية، لا مجال لذكرها جميعا، ولعل أخطرها على الإطلاق، ويمكن أن يحدث على المدى المتوسط، هو احتمال انهيار اتفاقية «سايكس بيكو» التي تمت في عام 1916، وزوال الحدود المصطنعة التي بين سوريا وكل من العراق ولبنان مكونة دولة جديدة بمعالم جيوسياسية خطيرة، مستفيدة بذلك من الصراعات الطائفية في تلك الدول، وأيضا مستفيدة من الصلات العشائرية والعائلية المتشابكة بين كل من سوريا ولبنان من ناحية الغرب، وسوريا والعراق من ناحية الشرق.

فالعراق تحول إلى دولة فاشلة بعد الاحتلال الأميركي، والعقد الاجتماعي بين المواطنين انفرط وحلت مكانه العصبية الدينية والطائفية والعرقية. أما لبنان، فقد تحول إلى دولة طوائف لا ترتبط بعقد اجتماعي وطني وثيق يجمعها، بل ترتبط بولاءات خارجية تستقوي بها على بعضها البعض. وعلى لسان الشيخ صبحي الطفيلي، أصبح لبنان طوائف يضرب بعضها بعضا، وبالمعنى السياسي دولة فاشلة أيضا. بالنسبة للبنان، إمكانية الانضمام إلى سوريا فيه أكبر بسبب القرب الجغرافي من دمشق، وعلاوة على ذلك، فإن بذور هوى ورغبة أهل السنة في لبنان بالانضمام موجودة منذ الأربعينات من القرن الماضي، إضافة إلى كل ما ورد، فإن سوريا تحت الحكم العلوي وبعد احتلال العراق أصبحت جسرا للترابط الشيعي الممتد من طهران إلى لبنان، الذي سماه الملك عبد الله بن الحسين، الهلال الشيعي، لكن هذا الجسر ممكن أن يكون رابطا للمد السني من بغداد إلى لبنان فيما لو تغيرت هويته. وعليه، فإن سقوط الحكم العلوي في سوريا يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط إلى شكل جغرافي وسياسي جديد لمنطقة الشرق الأوسط، وهذا ما يفسر لنا عسر مخاض الثورة السورية، فهي تفتح على مآلات غير محدودة المعالم وذات تأثير إقليمي ودولي كبير.

إذن اجتمعت الإرادة الدولية ضد الثورة السورية، ولكن بفيتو روسي وصيني، لكن تبقى إرادة الشعب السوري ومدى تضحياته وحدها من يقبل أو يرفض أي تسوية تنطوي على تنحية بشار الأسد مع بقاء نظام الحكم العلوي، أو إسقاط النظام برمته.

* باحث في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز - المملكة المتحدة