التعاون الخليجي - الأوروبي.. ضرورة استراتيجية ومصالح مشتركة

TT

الزيارة الناجحة التي قام بها الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية الدكتور عبد اللطيف الزياني في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) الماضي إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، تعد خطوة مهمة لتوثيق العلاقات الخليجية – الأوروبية، فقد التقى خلالها الدكتور الزياني كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي وعلى المستويات البرلمانية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية، حيث جرت مناقشة مواضيع مهمة وبوضوح وشفافية، قد تؤسس لعهد جديد من التعاون بين الطرفين في حال تفعيلها وترجمتها إلى حزمة من الإجراءات، وهذا ما نتوقعه أو ما نتمناه على الأقل، استنادا إلى الرغبة المتبادلة للتعاون من الجانبين.

التعاون الخليجي - الأوروبي بالغ الأهمية والأثر، ولا بد للطرفين من السعي لتوطيد هذه العلاقات على أسس واضحة وفي إطار الندية والتعاون المفيد في كافة المجالات، وهذا سوف يساهم في دعم الاستقرار الإقليمي في منطقة ملتهبة، إضافة إلى كونها المستودع الأكبر على مستوى العالم لمخزون النفط والغاز، ناهيك عن أهميتها الاستراتيجية وتأثيرها على الاقتصاد العالمي، شريطة أن يكون هذا التعاون وفقا للمصالح وبعيدا عن الهيمنة والاستقطاب، وبما يتيح زيادة التبادل التجاري، والتنسيق السياسي، والأمني، والعسكري، خاصة أن الأجواء مواتية لتوثيق هذا التعاون نظرا لطبيعة العلاقات التاريخية التي ربطت الطرفين عقودا طويلة، أو للقرب الجغرافي، والأهمية الاستراتيجية، وحجم المبادلات التجارية الضخمة التي بلغت أكثر من 92 مليار يورو في مجملها بين صادرات وواردات بين الطرفين في العام الماضي.

التقارب السياسي لم يرق إلى حجم وقيمة التعاون الاقتصادي بين الجانبين رغم وجود رغبة أوروبية كبيرة، وبدرجة أقل من جانب دول مجلس التعاون الخليجي لأسباب كثيرة، منها حساسية دول الخليج من التعاون العسكري مع (الناتو)، ورغبتها في تحديد أسس هذا التعاون واقتصاره على جوانب التدريب والتسليح، وغير ذلك من الدعم اللوجيستي، وتجنبا للتعامل مع دول أخرى محددة يتعامل معها الناتو أو الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى تعثر المفاوضات بين الطرفين حول اتفاقية التجارة الحرة لفترة طويلة قبل تعليقها منذ عام 2008م.

لقد سبقت زيارة الدكتور الزياني إلى بروكسل إشارات قوية من الاتحاد أكدت أن وجود رغبة قوية في زيادة حجم التعاون بين الطرفين إلى حد ما سمته الدول الأوروبية بـ«التعاون الاستراتيجي»، حيث صدر في ربيع العام الماضي عن الاتحاد الأوروبي ما عرف بتقرير مستقبل العلاقات الأوروبية - الخليجية وتبنى هذا التقرير بدء حوار استراتيجي عاجل مع دول الخليج حول القضايا المهمة، خصوصا الموجودة في الشرق الأوسط، وتشجيع العلاقات الثنائية بين الجانبين، ورسم هذا التقرير خريطة طريق للتعاون الاستراتيجي بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج تقوم على ما سماه التقرير «مشروع الجسر» للدبلوماسية العامة بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج.

في المقابل، عرض الدكتور الزياني خلال زيارته الأخيرة مواقف، ورؤى دول الخليج للأحداث الإقليمية والدولية، وسياساتها الداخلية والخارجية ولخصها في تحصين دول المجلس ضد كافة التهديدات، وزيادة النمو الاقتصادي، والحفاظ على مستوى عال من التنمية البشرية، والتمسك بالإصلاح السياسي التدريجي والحوار مع الحضارات لا الصدام معها، وتحسين المعيشة والقضاء على البطالة، وتوفير أفضل مستويات التعليم، والمعيشة، والتعليم، والرعاية الصحية، والسكن والخدمات الاجتماعية، وجميعها تدور حول الاهتمام بالإنسان الخليجي، وشدد على أن دول الخليج أصبحت منظومة قوية وتمتلك رؤية استباقية تجاه شؤونها الداخلية ومسؤولياتها الدولية وحماية استقلالها.

بين الرؤية الخليجية والرغبة الأوروبية تقف أهمية التعاون المستقبلي على أسس واضحة ومعايير لا لبس فيها ولا غموض، كما يريد الجانب الخليجي، يقابله طموح وثاب من الجانب الأوروبي، لكن المطلوب الآن ترجمة هذا الطموح إلى واقع، ولنجاح الحوار.. الجانب الخليجي يريد أن يسمع وبوضوح سياسات ومواقف الاتحاد الأوروبي تجاه القضايا التي تهم العالمين العربي والإسلامي ومنها القضية الفلسطينية، ومستقبل العراق وسوريا، والدول العربية التي تعرضت لأحداث الربيع العربي، والملف النووي الإيراني وما يترتب عليه من تبعات، وأمن منطقة الخليج، والوضع في اليمن، والمصالحة الأفغانية، والقرن الأفريقي، إلى جانب توضيح طبيعة التعاون الأوروبي - الخليجي.

تفعيل العلاقات الثنائية بين الكتلتين سيصب في مصلحة الطرفين، وسيدعم الاستقرار العالمي وأسواق الطاقة والتوازن الاستراتيجي في منطقة سوف تحتاج مستقبلا لتعاون خليجي مع دول الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والدول الناشئة، حيث ظهرت بوادر حرب باردة جديدة بين القوى العظمى التقليدية يعكسها الصراع الأميركي - الروسي حول ما يحدث في سوريا وما يصاحبها من سياسات روسية يؤكد عودة الدب الروسي إلى حلبة الصراع بعد استيقاظه من البيات الشتوي الطويل، وبرزت المنطقة العربية كحلبة لصراع النفوذ الجديد، وعليه لا بد للدول الخليجية أن تشارك في رسم مستقبل المنطقة ولا تترك الآخرين يقررون لها ما يريدون هم لا كما تريد الدول العربية وشعوبها، خاصة مع أفول نجم الإمبراطورية الأميركية، أو قبول واشنطن سياسة الصفقات السرية للخروج من المنطقة بأقل الخسائر، وفي ظل تسارع الخطى نحو تشكيل عالم جديد متعدد القطبية، وغياب العمل العربي المشترك وضعف أجهزة الجامعة العربية تحت تأثير ثورات الربيع العربي.

الفراغ الأمني المرتقب في منطقة الخليج وتصارع القوى الإقليمية بشكل معلن يدعو دول الخليج إلى التوقف أمام المتغيرات الدولية والإقليمية واتخاذ المناسب من السياسات وتنويع الصداقات وتوفير البدائل بما يحفظ الاستقرار والتوازن الاستراتيجي، ومن ثم التحول تجاه أوروبا والدول الناشئة القادمة على ساحة الملعب السياسي الدولي بقوة.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث