بناء ديمقراطية جديدة والانتقال من الوحدة إلى الاتحاد

TT

إن مفهوم الوحدة من أكثر المفاهيم المنتشرة، وربما الطاغية في الأدبيات القومية والإسلامية والوطنية طوال القرن الماضي للمنطقة، وأصبحت من الشعارات الرائجة بل المقدسة، لدى البعض، بحيث إن أي مساس بها أو التشكيك في مضمونها وعلويتها وأولويتها فكريا وسياسيا، كانت بمثابة نوع من العصيان والتنكر لهوية الأمة ولتطلعاتها في القوة والعزة والمنعة والنهوض، وتوجيه الأسئلة لمغزى الوحدة كمفهوم وكشعار سياسي، وفهم الوحدويين، يعتبر خيانة، واللجوء إلى ركن التفرقة والتشرذم، ومن ثم استمرار الضعف البنيوي للأمة القومية أو الدينية، أو الجسم الوطني، لكي يسهل اختراقها من قبل الأعداء المستعمرين القدماء والجدد، أو دوائر مشبوهة ومتربصة بأمننا وأمانينا!! ولهذا تم ربط موقف من الوحدة والمدعين بامتلاكها كشعار، وكخط فكري وسياسي، بالولاء الديني والانتماء القومي والوطني للإنسان. ولكن رغم هذا، بقيت الصراعات والانقسامات على حالها، وبقي حلم الوحدة غير متحقق، حتى على مستوى بلد واحد، خاصة تلك البلدان التي قادها أصحاب الآيديولوجية القومية والإسلامية الوحدوية الحديثة.

أما العيب أو المشكلة، فليست في الشعار، لأن الوحدة كثيرا ما جاءت مقابل التفرق والتشرذم، وكانت الفرقة أو الصراعات طابعا غالبا لكثير من الدول والبلدان، وهذا الواقع يشكل إحدى العقبات الكبرى أمام التقدم وإعادة الأخذ بالمبادرة الحضارية والرفعة السياسية. لذلك كان الشعار في ذلك الزمن الصعب المليء بالانقسامات والتناحر، محببة للنفوس والعقول ومتصلة بالسعي لبناء الأمة بالمعنى الحديث لدى البعض.

ولا خلاف في أن الوحدة ضرورية وعنصر القوة لأي مجتمع أو أمة. وفي بعض صيغها ومستوياتها، مطلوبة، وشرط مسبق لبناء الأوطان والأمم والدول والمجتمعات الحديثة، لأنها ترمز إلى تجاوز الهويات والإطارات المغلقة والضيقة، وتبلور هوية وطنية جامعة والشعور بالانتماء لمؤسسة الدولة على الصعيد الوطني والتوجه نحو تضافر الجهود والتعاون على الصعيدين القومي والإسلامي، ولكن على الرغم من ذلك فمن حقنا أن نخضع المفهوم والمدعين بامتلاكها، كشعار وكمطلب، للفحص الفكري والنقد النظري والقراءة الميدانية الواعية للتجارب، إضافة إلى نقد تاريخ وفكر وممارسة الحركات والتيارات التي حملتها في مراحل تاريخية معينة، وتحديد موقفها من القيم الإسلامية العليا، ومبادئ حقوق الإنسان، والديمقراطية، والاختلاف كحق، وفهمها لآليات الوحدة، ولمعرقلاتها، وللهدف المتوخى من ورائها.

لأن التسليم الأعمى بالشعار لا ينم عن وعي أصيل بمكانة الإنسان وموقعه في الكون، وعلاقته بالنظام السياسي، والمنظومات الفكرية المختلفة، ولا يدل أيضا على وقوف أمام الواقع المعيش، والماضي القريب، الذي صنفه رافعو شعار الوحدة. لذا آن الأوان لتوجيه أسئلة حقيقية لكل المفاهيم الرائجة، ومنها مفهوم الوحدة، بغية إعادة بنائها في الوعي الجمعي، وتحديد الموقف منها، من خلال نوعية مشاركتها في بناء تجربة جديدة، مبنية على احترام ذات الإنسان، وهوية الأمة، والإدارة العقلانية للشأن السياسي عن طريق تبني الخيار الديمقراطي. وفي ضوء ذلك من حقنا أن نسأل: هل كل صيغة للوحدة مهما كانت مضمونها وآلياتها وممارستها تعد ضرورية، وتمد المجتمع بالقوة والمنعة والاقتدار والازدهار؟ وهل الوحدة في ذاتها خير، وما دونها شر؟ من دون النظر إلى مضمونها وانعكاساتها وتصورات حامليها لأبعادها، وكيفية ترجمتها إلى الواقع!! ومن جانب آخر هل الوحدة هدف أم الوسيلة؟ ربما هناك من الوحدويين من يجيب عن كل هذه الأسئلة وغيرها بنعم؟ ويصر على تبنيها من دون الالتفات إلى الأسئلة التي توجه إلى مضمونها وأبعادها وعلاقتها بحقوق المواطن، والقيم الكونية الكبرى؟! اتباعا للمقولة والقناعة التاريخية بأن الغلبة خير من الفتنة، والاستبداد والتفرد بالحكم خير من الفوضى وانعدام النظام، ولكن الجواب بالنسبة لأمثالنا والفكر النقدي الحديث، والزمن ما بعد الآيديولوجيات الشمولية والشعارات الرنانة مختلف والاختلاف ناجم عن الزاوية الفكرية والمعيارية التي ننظر من خلالها إلى أمر الوحدة ومكانتها في الفكر والاجتماع كغيرها من المفاهيم والشعارات والمطالب.

واستنادا إلى إيماننا وقناعتنا الراسخة بمركزية الإنسان في الكون وبأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، من أجل الإنسان ولخدمته، وخلقه بيده، وفضله على كثير مما خلق تفضيلا، وكرمه ووهبه من روحه، وأن إعادة الاعتبار للإنسان في فكرنا وأدبياتنا بصورة عامة، وواقعنا بكل تفاصيله، يعتبر حجر أساس لكل نهضة مستقبلية والقطيعة مع الجانب المظلم والمتخلف من ماضينا وتاريخنا القديم والحديث.

لذا يجب النظر إلى جميع المقولات، والتيارات الفكرية والشعارات، ولكل الأوضاع والأنظمة والبرامج، من خلال موقفها من مكانة الإنسان في الكون، ومدى قدرتها على الحفاظ على كرامته وحقه في الحياة والحرية والسعادة والأمن، وكهدف أيضا لكل سياسة أو مشروع أو فكر، هذا هو أس الأساس، وأصل الأصول للمشاريع المجتمعية الكبرى الضرورية لامتلاك شروط المنافسة الحضارية والأخلاقية من جديد. وخلق إجماع وطني وقومي وإسلامي، يحسب له الحساب، ويراهن عليه في البناء والمنافسة والتحديث. وهذا من جانبه يطلب إعادة بناء مفهوم الوحدة في وعينا القومي والإسلامي والوطني، من منظور القيم الإسلامية والإنسانية الكونية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، واستخدام الثروات والمقدرات لخدمة الإنسان المواطن، وتأمين حياته ومستقبله ومستقبل الأجيال القادمة.

وكل هذا يقتضي ربط أمر الوحدة بالإرادة الحرة للمواطن والشعوب وبمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، والروح الإسلامية التواقة للانعتاق ورفض الأغلال. من دون ذلك يبقى أمر الوحدة غامضا، بل متناقضا مع متطلبات المرحلة الجديدة وجعل المواطن والشعب مصدر الشرعية السياسية والصاحب الحقيقي للسلطة، وفوق جميع الاعتبارات. وتختلط مسألة الوحدة أيضا بالدعوة إلى المركزية، وتركيز السلطة في يد نخب ومكونات معينة، وحرمان البعض من حق تقرير مصيره، أو المشاركة الحقيقية في السلطة وتحديد مصير البلد، والاستفادة منها لتخويف الآخرين وطردهم من العملية السياسية والتوجه نحو التوحيد القسري، من دون الالتفات، أو الحساب للحقائق التاريخية، والديموغرافية، والواقعية، والجغرافية، وحق الإنسان والشعوب في العيش الحر، لأن شعار الوحدة منذ عشرات السنين الماضية غالبا تم رفعها من قبل حركات وتيارات مناهضة للديمقراطية، وغير مهتمة بالإرادة الحرة لمواطني بلدانها وشعوبها، وهذا ما خلطها بالنزعة الشمولية، والسعي للسيطرة والهيمنة وعسكرة المجتمع، وعدم السماح بالاختلافات الطبيعية للتعبير الحر عن نفسها، في إطار هوية مجتمعية أكبر، ونظام سياسي حافظ للإجماع الوطني الحر، والنظر إلى أمر الوحدة من خلال مركزية الإنسان في الكون، وتحديد علاقاتها بالأمم والشعوب والدول الأخرى، يستدعي الانتقال من الوحدة إلى الاتحاد. باعتبار أن بديل الوحدة ليس بالضرورة أن يكون التفرقة والخلاف والشقاق، بل هو الاتحاد، أي الوحدة الطوعية، وأن الإصرار على بعض الصيغ القديمة للوحدة، في غياب الديمقراطية، وأعمال القيم الإسلامية والكونية، تؤدي إلى تشرذم والتصارع وفي بعض الأحيان الاقتتال والتقسيم مثلها يحدث الآن في العراق، وإذا كانت الوحدة في بعض تجاربنا غالبا مصاحبة للقسر والإكراه والاستحواذ على السلطة، فإن الاتحاد مبني على احترام الهويات والمكونات والتيارات والأطراف المكون للإطار المتحد ولخياراتها في تحديد علاقاتها وتحقيق آمالها ومصالحها من خلال البناء.

والأصل في الكون هو التعدد والاختلاف، وليس الوحدة والنظر والتوحيد، وأن الله هو خالق التعدد والاختلاف في هذا الوجود، وجعل الشعوب والقبائل والأمم مختلفين ولذلك خلقهم، لذلك فإن كل سعي للوحدة القسرية خاصة في ظل وجود التعددية القومية والدينية والمذهبية والتي يتسم بها كثير من بلداننا، ينافي الإرادة الإلهية في الوجود، والكرامة الإنسانية، ومصلحة الشعوب والدول. وأن أي نظام سياسي مبني على طمس الاختلافات وفرض الوحدة بالقوة من دون رضا المواطنين والمكونات المجتمعية، وفي غياب عقد اجتماعي وسياسي مبرم بين الأطراف، مخالف بشدة للقيم الإسلامية والديمقراطية، وكل القواعد والاتفاقات والمبادئ الدولية الداعية إلى احترام حق الإنسان في التعبير الحر والشعوب في تقرير مصيرها، وبناء على ذلك يجب ألا يتحول أمر الوحدة إلى هدف مقدس على حساب كرامة المواطن وحقوقه وحرياته والسلم الاجتماعي وحق المكونات في المشاركة. لأن المقدس بعد الله سبحانه وتعالى هو الإنسان كنوع، وليست المساحات الجغرافية أو الكيانات السياسية والحدود الدولية للدول. وهناك فرق بين أن نبدي احترامنا لهذه الاعتبارات وتقديسنا لها.

ومن جانب آخر، جعل الله الإنسان حرا في اختيار عقيدته وإيمانه أو عدم إيمانه به سبحانه وتعالى، فكيف بما دون ذلك من العيش في إطار حدود كيان معين، أو في ظل نظام أو علاقات معينة؟ وإذا سلمنا بأهمية التسليم بمبدأ الاتحاد بين أبناء وطن واحد أو المكونات والشعوب حينئذ نوسع فهمنا لمضمون الوحدة، ولا نقتصرها على بعض الصيغ التاريخية. ومن حسن الحظ أن التجربة التاريخية الإسلامية للمنطقة بجانب التجارب الحديثة الناجحة، تشكل مصدر إلهام قويا للانتقال من صيغة الوحدة إلى الاتحاد، لأنها كانت اتحادية في سياق مرحلتها التاريخية واستنادا على هذا الواقع التاريخي يستغرب لبعض الإسلاميين تركيزهم الدائم على مفهوم الوحدة ببعض مفاهيمها الحديثة والمتأثرة ببعض المدارس والنماذج القومية، وفي مقدمتها المدرسة الألمانية، لأن القيم الإسلامية على ما نرى لا تؤكد على وحدة أو عدم وحدة الكيانات الحديثة للشعوب الإسلامية، بل تؤكد على التعاون على البر والتقوى وعلى كيفية التعامل مع الإنسان ومدى انعكاس قيمه ومبادئه في الحياة السياسية والاقتصادية. وإرساء دعائم وقيام الشعوب بإرساء دعائم لنظام سياسي عادل والعيش الأخوي فيما بينها.

* مفكر إسلامي ووزير كردي عراقي سابق