أين إسرائيل مما يحدث في سوريا؟

TT

«من يعش بالسيف يمت بالسيف» (عيسى بن مريم عليه السلام - إنجيل «متى» 26:52)

أين إسرائيل مما يحدث منذ 11 شهرا في سوريا؟

أزعم أن هذا سؤال يفرض نفسه حتى على من يرفضون «نظرية المؤامرة». فبعد أنهار الدم التي سالت وتسيل في مختلف أنحاء سوريا، وفي ضوء إصرار نظام بشار الأسد بعد سقوط آلاف القتلى على أن كل ما يحدث في البلاد «مؤامرة تنفذها جماعات مسلحة تستهدف ممانعة دمشق وخط المقاومة».. يتوقع أي شخص منا معدل ذكائه يفوق مستوى الغباء أن لإسرائيل موقفا ما.

يتوقع مثلا، أنها ستبادر إلى استغلال هذه الفرصة السانحة - التي طالت لقرابة سنة كاملة - لإسقاط النظام عبر ضغط «اللوبيات» الموالية لها داخل الولايات المتحدة. وهي «اللوبيات» ذاتها التي قادت - كما نذكر - قبل نحو 10 سنوات حملة إسقاط حكم تسلطي بعثي آخر في العراق.. متجاهلة حتى مجلس الأمن الدولي.

يتوقع من آلة الحرب الإسرائيلية تحركا على الأرض، ولا سيما بعدما «اكتشف» قادة إسرائيل كم هو عنيد هذا النظام «العلماني» (؟) و«المقاوم» (!) في سعيه لتدميرها. وهذا، طبعا، بعد «اكتشافهم» طبيعة ارتباطه العضوي بنظام «الولي الفقيه» في إيران.

الغريب أن جنرالات إسرائيل، كإيهود باراك وزير الحرب الحالي رئيس الوزراء السابق، يبدون أكثر ميلا إلى التنجيم في توقعهم سقوط النظام من السعي للتخلص منه، كما ألفنا من إسرائيل بعد «جيرة» قسرية طالت أكثر من ستة عقود.

ولكن، في ذكرى مرور 7 سنوات على اغتيال رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، يظهر أن أمورا كثيرة أخذت تتوضح.. على صعيد منطقة الشرق الأدنى كلها.

صحيح عند وقوع الاغتيال ظهر 14 فبراير (شباط) 2005 كان الجو العام في لبنان مهيأ لتوجيه أصابع الاتهام إلى دمشق و«النظام الأمني» الذي أسسته ورعته في البلاد على امتداد نحو 30 سنة من الهيمنة المطلقة على مقدراتها. وصحيح أن سوابق دمشق في مجال الاغتيالات السياسية اللبنانية أسهمت في خلق هذا الجو الاتهامي.. إلا أن ما حصل في لبنان، بالذات، بعد تلك الجريمة كشف تدريجيا حقائق كثيرة.

بداية، وقف حزب الله، القوة السياسية والعسكرية الأكثر استفادة من الهيمنة الأمنية السورية، علانية في وجه الجو العام اللبناني برفعه شعار «شكرا سوريا»، متحديا على الأقل مشاعر نصف اللبنانيين في فترة حرجة وأليمة. ومن ثم، بعد اضطرار دمشق لسحب وجودها العسكري المكشوف، استوعبت القيادة السورية والقوى الداعمة لها الانتكاسة السياسية المؤقتة، فباشرت هجوما مضادا على خصومها في الداخل اللبناني. وكانت الظاهرة الأبرز لتلك المرحلة، توالي الاغتيالات السياسية، واستخدام «محور طهران - دمشق» ميشال عون كـ«صاعق تفجير» لنسف مسيرة اللبنانيين نحو إعادة بناء «دولة المؤسسات» والتعايش الوطني الحقيقي.

ثم وقعت «حرب 2006»، ذات المبررات والتصورات والتكتيكات العجيبة الغريبة، التي يبدو اليوم أنها كانت تستهدف البنى التحتية في لبنان وسلطة الدولة المدنية أكثر من استهدافها حزب الله.. ذلك أن الحكومة الإسرائيلية كانت، وما زالت، تعرف الكثير عن مصادر تسليح «الحزب» ومراكز تدريبه وخطوط إمداداته، ناهيك عن تواضع التزامه بـ«مسؤولية الحكم الجماعية» في دولة لا يعترف أصلا بسيادتها ولا سلطتها القانونية والمالية عليه.

وخلال أقل من سنة، في مايو (أيار) 2007، خلف نيكولا ساركوزي سلفه جاك شيراك في منصب الرئاسة الفرنسية. وكما هو معروف، باشر ساركوزي، المعروف بصلاته الوثيقة بـ«اللوبي» الإسرائيلي الفرنسي، انفتاحا نشطا على النظام السوري و«أعاد تأهيله» دوليا، في انقلاب كامل على سياسة شيراك تجاه الشأن اللبناني - السوري أو إزاء العالم الإسلامي.

وفي مايو 2008، وقعت «حرب أيار 2008» في لبنان، التي انتهت فعليا بتولي حزب الله الأمور في لبنان. فبعدها دانت له الحلبة العسكرية، وحقق اختراقه السياسي داخل المجتمع المسيحي عبر عون، كما نجح مرحليا في تحييد الدروز بالتهديدين العسكري والعقاري (شراء الأراضي)، وترهيب السنة بعد ما سمي بـ«غزوة بيروت». وهذا بجانب نجاحه، مع القيادتين السورية والإيرانية المرتبط بهما استراتيجيا، في ترجمة سيطرته الميدانية والسياسية عبر «اتفاق الدوحة» المقصود منه مرحليا أن يكون بديلا لـ«اتفاق الطائف». وفي مطلع 2011 ضرب حزب الله ضربته، فأسقط «حكومة اتفاق الدوحة» منتهكا تفاهم «الثلث المعطل»، ومشكلا حكومة جديدة.. الأكثرية فيها له ولحليفه الشيعي «حركة أمل» وتابعه المسيحي عون.

طوال هذه الفترة كانت «المساكنة» هادئة بين إسرائيل والواقع اللبناني الجديد (بفضل القرار الدولي 1701)، تماما كهدوء «المساكنة» عبر خط الهدنة في هضبة الجولان. وأصلا، بدت الأوضاع في العراق حيث تولى نوري المالكي، القيادي في حزب الدعوة الشيعي، الحكم عام 2006 - إبان الاحتلال الأميركي للعراق - مرضية جدا لإسرائيل.

وبالتالي، من واقع التجربة الطويل مع حكمي الأسد الأب والابن في سوريا، وحكم «محور طهران - دمشق» في العراق، ما كان لإسرائيل أن تقلق كثيرا من اكتمال «الحلقة» بضم لبنان يحكمه حزب الله بمباركة من البطريرك الماروني الجديد بشارة الراعي (تولى السدة البطريركية في مارس/ آذار 2011).

هل يستشف مما سبق عرضه وجود تحالف استراتيجي بين إسرائيل و«محور طهران - دمشق» في المنطقة، على الرغم من كل كلام طهران العدائي وإنكارها المحرقة النازية وتلويح إسرائيل بتدمير المفاعلات النووية الإيرانية؟

تحالف استراتيجي، ربما لا. ولكن وجود تحالف تكتيكي.. حتما.

من أتفه التفاصيل وأصغرها إلى «عض الأصابع» في مجلس الأمن الدولي وعواصم القرار العالمية الكبرى، يتأكد في لحظة وجود هذا التحالف التكتيكي. وهو لا يهدف على الأرجح إلى خدمة «الشيعية السياسية»، وبالأخص في العالم العربي، بقدر ما يهدف إلى زج الشيعة في حرب إسلامية - إسلامية، بين غلاة الداعين لدولة «الولي الفقيه» ومناوئيهم المتحمسين للخلافة على نهج السلف الصالح.. ولو عبر السلفية الجهادية.

عندما يتكلم شخص بحجم رفعت علي عيد، أمين عام ما يسمى بـ«الحزب العربي الديمقراطي» (العلوي) في طرابلس بشمال لبنان - حيث يشكل السنة نسبة تقارب الـ90 في المائة من السكان - أمام لوحة كتب عليها «لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار»، ويعلن بتحد أن ولاءه للرئيس بشار الأسد و«السيد» حسن نصر الله والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ويتباهى بأنه وسلاحه «جزء من مشروع المقاومة».. فإننا نكون أمام مؤشرات خطيرة لمفعول «الفيتو» الروسي - الصيني المزدوج في مجلس الأمن الدولي.

وفي المقابل، عندما يصبح الشيخ السلفي أحمد الأسير قبلة أنظار الشباب السني المتحمس في مدينة صيدا، ذات الغالبية السنية، التي تشكل بوابة «الجنوب» الشيعي الخاضع لحكم حزب الله المسلح والممول إيرانيا - كما اعترف «السيد» نصر الله في الأسبوع الماضي - يصبح من حق أي عاقل القلق من حتمية المواجهة الإسلامية - الإسلامية على امتداد لبنان.

هذا الـ«لبنان» الذي نشر فيه نظام دمشق بذور التخوف الطائفي المتبادل، ورعى فيه مشروع «تحالف الأقليات» التوريطي، هو جزء من الصورة التي تريدها إسرائيل للمنطقة.. والشيء نفسه، مع الأسف، يصدق على نموذج «سوريا بشار الأسد» و«عراق نوري المالكي»!